المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الثقافة.. وتآكل الذات!



المراسل الإخباري
07-08-2022, 05:28
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن كل ما يطفو على السطح في المجتمعات العربية من ضجيج تذمري لكثير من أنماط الحياة المعاشة في وقتنا الحالي، ما هو إلا تدمير للثقافة العربية إذا ما سلَّمنا بمفهومها، فالهدم الذي نراه اليوم لكل أنماط الحياة المعاشة أو قل جلها ما هو إلا معول لهدم الخصوصية العربية..
لم تكن الثقافة في مفهومها الجمعي تقتصر على نخبة معينة، بمعنى آخر أي أنها نوع من التعالي المعرفي من محتوى ما تتمنطق به مجموعة من البشر؛ بل هي كل ما يحتويه ذلك الإطار المرجعي للفرد. فالإطار المرجعي كما صنفه علم النفس هو كل ما يجمعه الفرد منذ الميلاد حتى الممات من معارف، قد يظن أنه لا يتذكرها، ذلك لأن جميعها تُختَزَن في مخزن العمليات المعرفية كوظيفة من وظائف الدماغ والتي أطلقتُ عليها "الصندوق الأسود"، ليس لمحتوى سيئ -لا سمح الله- وإنما لصعوبة استخراج المعلومات منها، إلا أنه يفتح طواعية حين التوقد الذهني أو ما يطلق عليه القدح الذهني، وهو ليس بالذاكرة القريبة أو حتى البعيدة، وإنما مخزون متلازم تلازماً طردياً مع الزمن، وهو محتوى تراث الشعوب وعاداتها وتقاليدها وعلومها وفنونها القولية منها والفعلية، والتي تلازم ملكات الإبداع إن سلمنا بذلك لدى المبدعين.
ولقد قضى معظم الفلاسفة والعلماء جل حياتهم للوصول إلى تعريف شامل لهذا المعنى، فتعددت التعريفات، واتخذ كل منهم صولات وجولات لإكساب هذا المفهوم معنى اصطلاحياً يخلّص الذائقة العامة من أن المفهوم يخص شريحة بعينها من شرائح المتجمع، فالمجتمع والثقافة أمران متلازمان لا يمكن الفصل بينهما مهما تعددت تلك التعريفات أو تنوعت المفاهيم وكذالك علاقة الفرد بالمجتمع.
ولعل من أقدم التعريفات للثقافة هو تعريف (إدوارد تايلور)، الذي قدمه في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي في كتابه "الثقافة البدائية"، حين قال: إنها "كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمعه".
من هنا تكتسب الثقافة مفهومها، من ذلك التكوين المجتمعي، ومن علاقة الفرد بالجماعة نتيجة لكل التفاعلات بين جميع الشرائح والأجناس واللغات والممارسات اليومية المادية منها والعقائدية؛ ويعزز ذلك تعريف (روبرت بيرستد) الذي أطلقه في أوائل الستينات حين قال: "إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملكه، كأعضاء في مجتمع".
فيزيد هنا روبرت في تعريفه هذا بمحتوى الملكية العامة والتي اعتبرها نوعاً من الموروث الجمعي في حقيبة الذهنية الإنسانية بصفة عامة والفردية بصفة خاصة. ولذلك انسحب معنى الثقافة من الكل إلى الفرد ومن الفرد إلى الكل في دوائر يتوجب أن لا تكون متماسة فحسب وإنما متقاطعة أيضاً.
ولهذا أصبح مفهوم المثقف لا يقتصر على شريحة معينة من المجتمع، وهو كل ما ذكرناه سلفاً يتفاعل تفاعلاً ديناميكياً بين الفرد والمجتمع والمجتمع والفرد في تشكيل من تشكيلات أنماط الحياة، وهو ما يخلق سلسلة متنامية تؤثر في سلوك الإنسان نفسه وتسوقه طواعية لتنمية هذه السلاسل المترابطة التي تسير عليها المجتمعات؛ فمن يخرج عن محيط هذه الدوائر يتلقى ما يتلقاه من النقد أو قل الانتقاد الاجتماعي حتى يصل الأمر إلى أحكام القانون إذا ما تفاقم الأمر.
ولذا وجدنا نظرية تعنى بمفهوم الثقافة كمصطلح معرفي تسمى "نظرية القابلية الاجتماعية الثقافية للنمو"، حيث إنها تلك العلاقة الارتباطية بين قابلية نمط الحياة للنمو وبين التوافق والانسجام بين العلاقات الاجتماعية والتحيزات الثقافية إذا ما سلمنا أن هناك عدداً من أنماط الحياة، ولكن على الرغم من تعدد الأنماط إن وجدت، إلا أنه يتوجب أن تنسجم هذه الأنماط الحياتية انسجاماً تاماً، وبالتالي فإن انسجام الكل مع نمط حياة الفرد والعكس كذلك هو ما يمكن أن نطلق عليه مثقفاً أو ثقافة.
ومن هنا نستطيع القول: إن كل ما يطفو على السطح في المجتمعات العربية من ضجيج تذمري لكثير من أنماط الحياة المعاشة في وقتنا الحالي، ما هو إلا تدمير للثقافة العربية إذا ما سلَّمنا بمفهومها، فالهدم الذي نراه اليوم لكل أنماط الحياة المعاشة أو قل جلها ما هو إلا معول لهدم الخصوصية العربية، والذي قد لا يصل إلى مفهوم الفرد العادي أنه يحيي سلوكاً مغايراً للنمط الاجتماعي الذي يدور في فلكه تكوين الإنسان نفسه، وكأنه نوع مما يطلق عليه علماء النفس "تدمير الذات من الداخل".
قد يسلك الفرد نوعاً من السلوك الفردي بدعوى الحرية التي تنادي بها المجتمعات الحديثة، والتي أصبحوا هم ذواتهم يحاربونها، وذلك على سبيل المثال ما نراه في المجتمع الأميركي من تذمر واستهجان وصل إلى حد الإنكار في شكل ثورة اجتماعية على ما أطلقته مديرة ووالت (ديزني بلس) في دفاعها عن مجتمع الميم بتنميط شخصيات ووالت ديزني المعروفة لدى أطفالنا بنمط المثليين، هذا الاستنكار المجتمعي من الأميركيين أنفسهم، وهم الداعون للحرية الفردية والمسوِّقون لها، إنما يأتي بوازع الدفاع عن ثقافتهم ووعيهم بأن تآكل النمط الاجتماعي ما هو إلا تآكل للذات المجتمعية برمتها، وبذلك الهوية والخصوصية والثقافية التي يتميز بها مجتمع عن الآخر فيكتسب تفرده بها حتى وإن تماست الثقافات والمعارف.
ومن كل ما سبق نستطيع القول: إن كل فرد يحيا في أي بنية اجتماعية مكتسباً منها نمطاً اجتماعياً في دائرة متماسة ومتقاطعة نطلق عليه مفهوم مثقف، لما يحتويه إطاره المرجعي من تراث مادي وشفاهي مكتسب، وأن من يخرج عن الدائرة تلك، التي ذكرناها سالفاً، بأنه متداعي الثقافة إلا أن لديه إطاراً معرفياً مليئاً بالتراث أي محملاً بما يفعله ويقوله هو والآخرون، إلا أن ذلك الإطار يتداعى ويتهاوى فيصبح الفرد حينها آيلاً للسقوط مهما بلغ من المكتسبات المعرفية، وبالتالي الهوية والتفرد والتميز والمجتمع برمته.




http://www.alriyadh.com/1960630]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]