تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التلاشي البصري



المراسل الإخباري
07-23-2022, 04:21
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
يمكن أن أصنف التلاشي والتكشف البصري ضمن الخبرة الجمالية، وهذه الخبرة هي التي تجعلنا نتنبه لبعض الظواهر، وهي التي تولّد لدينا فضول المعرفة وتثير لدينا الأسئلة. كما أنها ظاهرة تولد من وجود تقاليد غير منظورة وكامنة في بنية الشكل نقلها من صنع الشكل..
وعدت بعض الزملاء أن أتناول مصطلح -أدعي بأنه جديد- انتبهت له وأنا أجري دراسة تحليلية على مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) في مدينة الظهران. هذا المصطلح هو "التلاشي البصري"، فمن خلال زياراتي المتعددة للمبنى وجدت أن كتل المبنى تتخفى تدريجياً مع الحركة كلما اقتربنا من المبنى، وهذا التخفي يتغير شكله ودرجته عندما تكون الحركة حول محيط المبنى القريب. وصفت هذه الظاهرة بمقدرة الأشكال المعمارية على التخفي عن العين كحالة تولّد تنوع الأشكال البصرية دون الحاجة فعلاً إلى إجبار الشكل على التنوع بشكل مفتعل. من الجدير بالذكر أن التنوع الذي يخلقه التلاشي البصري لا يتطلب إلا فهم كيف تتكون الأشكال العضوية في الطبيعة، إذ يبدو أن ظاهرة التخفي والغموض التدريجي للأشكال مكون جوهري في كثير من التشكيلات العضوية الطبيعية. لقد ذكر بعض الزملاء أن المصطلح غير مفهوم وأن كلمة "تلاشي" لا تعبر عن الفكرة، فهي تعني الاضمحلال والعدمية، بينما المقصود من الفكرة هو "الاضمحلال المؤقت مع القدرة على الرجوع"، فالتلاشي هنا ليس تلاشياً عدمياً بل هو حالة نسبية تصل إلى الاختفاء التام لكن الشكل يستعيد حضوره البصري عندما يتغير مجال وزاوية الحركة.
لقد طرحت فكرة التلاشي لأصف بها تشكيلات المكون المعماري في المدينة العربية - الإسلامية، أي أن الظاهرة التي نبهني لها مركز "إثراء" هي التي قادتني إلى ظاهرة التلاشي البصري الذي تتميز به المدن العربية القديمة، فهي تتكون من بيئات عمرانية ناشئة عن مكون عضوي تطور بشكل تدريجي. فأثناء الحركة في المدينة القديمة، وقد كنت قبل عيد الأضحى المبارك بأيام أتجول في مدينة القاهرة وبشكل أدق في شارع المعز والحارات المحيطة به، وجدت أن "التلاشي البصري" ظاهرة بنيوية عميقة تقابلها ظاهرة أخرى هي "التكشف البصري" أي أن الظاهرتين متلازمتان، ففي حين أن هناك أشكالاً تختفي عن عيوننا تظهر أجزاء من أشكال ومكونات جديدة وتبدأ في التكشف تدريجياً، وهكذا. شعرت أنني كشفت عن سر لم أكن أعيره انتباهاً في السابق، فما الذي يجعلنا لا نشعر بالملل عندما نكون في المناطق العتيقة، ولماذا نرى هذه الأماكن بشكل جديد في كل مرة نزورها؟ ووجدت بعض الإجابة في ظاهرتي التلاشي والتكشّف البصري.
من المتفق عليه في الدراسات العمرانية والمعمارية أن اتجاه التعلم يبدأ من العمارة التاريخية، فهي مصدر الدروس والإلهام الذي يقودنا لفهم العمارة المعاصرة وليس العكس، على أن المفاجأة أن دراستي لمركز "إثراء" علمتني الكثير حول إمكانية قراءة العمارة التاريخية برؤية نقدية مختلفة كلياً، وأن مثل هذه القراءة قد تساعدنا على تفكيك كثير من أسرار المدن والعمارة العتيقة.
يجب أن أقول إن مثل هذه الدراسات التي تهتم بفهم "الظاهر" البصري، تخفي داخلها الكثير من طبقات الأسرار، فالأسئلة التي تثيرها هي: لماذا تملك هذه البيئات هذه الخاصية بينما تفتقر لها البيئات المعاصرة المخططة؟ هل يكمن السر في البشر، فهم ينسجون بيئات عفوية وغير مباشرة، وتنحو للغموض، وتحفظ تقاليدهم، وتشعرهم بالجمال وعدم الملل وتتناسب مع بيئاتهم وقدراتهم التقنية، إذا ما سمح لهم بخلق هذه البيئة دون قيود ودون توجيه من جهات خارجة عن محيطهم الاجتماعي؟
ومع ذلك يمكن أن نشير هنا إلى أن الظواهر البصرية التي تبدو، أحياناً، بسيطة ومنطقية، تخفي داخلها عمليات إنتاج معقدة مر بها الشكل المرئي، فما نعتقد أنه بسيط وعفوي، في واقع الأمر هو نتاج مجموعة معقدة من العلاقات والتقاليد المتشابكة التي أخضعت الشكل المرئي للتهذيب والتطوير حتى أصبح حاملاً للظاهرة البصرية اللافتة. لذلك عندما نشعر بالراحة والمتعة عند مشاهدتنا لمركب عمراني أو حتى فني، يجب أن نتوقع أن هناك سر ما خلف هذه المتعة. يمكن أن أصنف التلاشي والتكشف البصري ضمن الخبرة الجمالية، وهذه الخبرة هي التي تجعلنا نتنبه لبعض الظواهر، وهي التي تولّد لدينا فضول المعرفة وتثير لدينا الأسئلة. كما أنها ظاهرة تولد من وجود تقاليد غير منظورة وكامنة في بنية الشكل نقلها من صنع الشكل، لذلك فإن بعض الظواهر البصرية البسيطة قد تقودنا إلى كشف الكثير من الأسرار الكامنة التي تمثل قاعدة جبل الجليد، وهذا فعلاً ما شعرت به في مركز إثراء، فبعض الظواهر البصرية التي يتميز بها المبنى ما هي إلا رأس جبل الجليد بينما أسرار هذه الظواهر فتكمن في القاعدة.
ولعلي أختم بالحديث عن "ديناميكية التقاليد" التي بدأت تشكل البيئات العمرانية المعاصرة، فمن المتفق عليه أنه لا يمكن أن تكون التقاليد ظاهرة "ديناميكية" متغيرة، إلا إذا اتفقنا على أنه لا يوجد تقاليد بالمعنى الحقيقي، فهي تحتاج إلى الوقت والتناغم الاجتماعي حتى تتشكل. ربما يفسر هذا شعورنا بالملل من كثير من الظواهر البصرية المعاصرة بما في ذلك العمارة، فهي ليست راسخة في التقاليد البشرية ولا تختزن الكثير من الأسرار التي تدعونا لكشفها وإن كانت تبهرنا دائماً بتقنياتها المتفوقة.




http://www.alriyadh.com/1962857]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]