المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حياة وموت الأفكار



المراسل الإخباري
09-17-2022, 03:45
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
ما السر في أن بعض الأفكار تتطور وتستمر ويؤمن بها كثير من الناس، وبعضها يموت حتى لو حاول من يقف خلفها أن يفرضها بالقوة ويجند لها كل أسباب النجاح؟، هل السر يكمن فيمن يستقبلها ومدى استعداده لتقبلها؟..
رواية البيت الصامت التي بدأ كتابتها الروائي المعماري التركي أورهان باموق وهو في عمر الثامنة والعشرين، تتناول فترة تاريخية تصارعت فيها الأيديولوجيات الكبرى في تركيا، فالشيوعية من جهة والمثاليون من جهة أخرى، يتحدث باموق عن الكلمات التي تغطينا أكثر ولا تكشف عن سرائرنا، ويركز على أن الأفكار التي تفرض بالقوة لا يمكن أن يكتب لها البقاء، فإذا لم تولد الفكرة من الناس وبين الناس، فلن تبقى طويلا حتى لو فرضت قسرا على الناس. في أحد الحوارات في الرواية يتم "تعرية التاريخ" الذي هو عبارة عن مجموعة قصص يتبناها المؤرخ، فلا معنى للحقيقة المطلقة فيما يسمى التاريخ، ويطرح سؤالا جوهريا هو: ما التاريخ؟ وكأنه يشير إلى كتاب الفرنسي "إدوارد كار" الذي يكشف حقيقة التاريخ، وأنه مجرد محاولة لصناعة حبكة درامية ليست بالضرورة أن تكون حدثت في الواقع، ومع ذلك فإن الرواية تلقي بظلال قاتمة على فترة الثمانينات وربما نهاية السبعينات في تركيا والتحولات الثقافية العميقة التي كانت تتنازع المجتمع التركي الممزق بين الشرق والغرب.
ثمة تصور أن الأفكار العظيمة هي التي يتم تبنيها بشكل عفوي ومتدرج لا التي يتم إسقاطها على المجتمع بشكل قسري، فحتى لو استجاب هذا المجتمع لتلك الأفكار المفروضة عليه، غالبا ما يتراجع عنها بعد زوال القوة التي أجبرته على تبنيها، وهذا التصور يخوض في مسألة مدى إيمان مجموعة من الناس بفكرة محددة والعمل على نشرها وتطبيقها لكن بالحكمة والموعظة الحسنة وليس بالإكراه، تدور معظم الحوارات بين صلاح الدين وزوجته فاطمة في رواية البيت الصامت حول محاولة الأول إقناع زوجته بالقوة كي تتبنى أفكاره الإلحادية، لكنها مؤمنة وتخشى الله ولم تتقبل هذه الأفكار حتى وفاة زوجها. لفت انتباهي توسل الزوج أحيانا ومحاولة تخويف زوجته أحيانا أخرى كي تؤمن بما يؤمن به دون جدوى، فهذه المحاولات تمثل المحاولات العقيمة التي بذلها كثير من الوعّاظ خلال الأربعين سنة الفائتة دون أن تصنع تغييرا حقيقيا، لا يمكن فرض الأفكار بالترغيب والترهيب فهي تنمو فقط بالأيمان، فالناس يمكن أن يتحملوا لفترة من الزمن لكنهم سيعبرون عما يؤمنون به في أول فرصة تتاح لهم.
تكمن الإشكالية الأساسية في أن البعض ينظر للتقدم والتطور بمنظوره الخاص، ويعتقد أن من واجبه أن يغير العالم ويجعله يرى كما هو يرى، لأنه يعرف الحقيقة كاملة. فهو يعتقد أنك طالما تقف في الجهة المقابلة له فأنت ترى عكس ما يرى وأن مهمته هي أن يجعلك تقف بجانبه كي ترى ما يراه. كان صلاح الدين يجلس كل يوم ساعات في غرفته في البيت الصامت ليكتب موسوعته التي سوف تغير الشرق، فهو يرى أن هذه الموسوعة هي المخلّص وأنها سوف تحرر العقل الشرقي الراكس في السكون الذي يفتقر للفضول المعرفي، لكنه في نهاية المطاف يكتشف أنه لن يستطيع أن يأتي بجديد فالغرب كتب عن كل شيء واكتشف كل ما يجب اكتشافه وأن موسوعته ما هي إلا تكرار لما كتبوه واكتشفوه. ومع ذلك لم يتخلّ عن حلمه بأن أفكاره سوف تغير العالم، لكنه مات قبل أن ينشر هذه الموسوعة وقامت فاطمة بحرقها لأنها مليئة بالكفر والإلحاد.
ثمة اتفاق أن الفكرة تولّد الفكرة المضادة لها، حتى لو كانت الفكرة المضادة خجولة وخائفة لكنها تظل تسري بين مجموعة من الناس، وغالبا ما تشكل الأفكار التغييرية القسرية نوعا من الارتباط بشخصية وعقلية صاحب الفكرة، فصلاح الدين الطبيب كان يعتقد أنه المصلح الذي سيغير الشرق، لكنه في واقع الأمر لم يفهم ماذا يريد هذا الشرق، وهل الأفكار التي يعتقد أنها ستغيره مناسبة له. لقد تحولت أفكاره إلى حلم شخصي لم يتجاوز غرفته وزوجته وربما ابنه القزم "رجب" غير الشرعي. كثير من الأفكار التي يعتقد أصحابها أنها عظيمة وأنها ستغير البشرية هي عبارة عن أحلام شخصية، لا تغوص عميقا في بنية وعقل المجتمع الموجهة له وبالتالي فهي تموت بسرعة حتى لو استمرت لفترة من الوقت.
ربما سأل كثير منا نفسه: ما السر في أن بعض الأفكار تتطور وتستمر ويؤمن بها كثير من الناس، وبعضها يموت حتى لو حاول من يقف خلفها أن يفرضها بالقوة ويجند لها كل أسباب النجاح، هل السر يكمن فيمن يستقبلها ومدى استعداده لتقبلها أو في بنية الفكرة وجدواها وقدرتها على التكيف مع حاجة المجتمع؟، ورغم أن جميع الأفكار تضعف مع الوقت وتفقد بريقها وقوتها، إلا أن بعضها يستطيع أن يولد من جديد ويطور بنية جديدة لا تبتعد كثيرا عن الأصل لأنها أفكار ولدت لبناء المجتمع على عكس تلك التي تولد من أجل بناء أمجاد شخصية للبعض، كما كان يحاول صلاح الدين من خلال موسوعته.




http://www.alriyadh.com/1972278]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]