المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين المتوسط والجزيرة العربية



المراسل الإخباري
10-22-2022, 13:52
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن فهم آليتي "التّأثر" و"التكيّف" بين المتوسط والجزيرة العربية يمكن أن يفتح آفاقاً واسعة لفهم كثير من الجذور الثقافية التي ساهمت في خلق ثقافة الجزيرة العربية، فهذه الجذور شكلت الحضارات الإنسانية الأولى، وربما تكون تراجعت في فترات تاريخية معينة، لكن الحوار مع المتوسط لم ينقطع..
قبل نحو عشرين عاماً تلقيت دعوة من جامعة "فيديريكو سكندو" في نابولي في إيطاليا، كانت الجامعة تنظم ملتقى عن عمارة حوض الأبيض المتوسط وكانوا يعتبرون الجزيرة العربية تمثل امتداداً لهذا الحوض، أي أن الأمر يتطلب فهم عمارة الصحراء حتى نستطيع فهم عمارة الشواطئ على جانبي المتوسط. الدعوة كانت مفاجأة بالنسبة لي فلا تربطني بهم علاقة سابقة، وتوقعت أن أحد الزملاء قام بترشيحي كونهم كانوا بحاجة لمن يتحدث عن عمارة الجزيرة العربية.
الأسئلة التي تبادرت في ذهني في ذلك الوقت هي: هل فعلاً يمكن أن أربط بين ثقافة المتوسط وبين ثقافة الجزيرة العربية؟ وماذا الذي يمكن أن أتحدث عنه في ذلك الملتقى؟ لم يخطر في ذهني أن أتحدث مباشرة عن العمارة السعودية التاريخية بقدر ما كنت أفكر في طرح مفهوم، كنت أرى أنه جديد، حول نمو الأشكال وتطورها، وكيف يمكن أن تؤثر على مفهوم الهوية التي كنت أرى أنها يجب أن تكون نسبية ومتغيرة وتعبر عن روح العصر ولا ترتبط بالماضي إلا بمنابعها وجذورها فقط، وليس بتفسيرات هذه المنابع والأصول. لذلك حاولت أن أتحدث عن نمو الأشكال في الجزيرة العربية من خلال حالتي التأثّر والتّكيف. يجب أن أشير إلى أن هذه الندوة نبهتني إلى الجذور الخفية التي قد يصعب اكتشافها في مكون العمارة والثقافة في الجزيرة العربية، وأن هناك عملاً كبيراً يجب أن نقوم به يتطلب تطوير أدوات وتقاليد بحث مختلفة.
ويبدو أنه ثمة اتفاق على وجود ارتباط حضاري حقيقي بين الجزيرة العربية والمتوسط، حتى وإن كان ارتباطاً غير ملحوظ على المستوى البصري، فقبل أسبوعين تقريباً حضرت الندوة الرئيسة في ملتقى في إسطنبول ركز على عمارة حوض المتوسط، وتحدث المعمار راسم بدران عن تجربته في مدينة الرياض، وقال: "إنه لا يمكن فهم عمارة المتوسط دون فهم ما يحدث في الصحراء المحاذية له". والحقيقة أنني شعرت في هذه الندوة أن العمارة السعودية كانت الغائبة الحاضرة، لأن البرفسور "أميديو سشيتاريلا" رئيس هيئة المعماريين الدولية تناول تجربته في المملكة خصوصاً في معهد الفن الحديث في الدرعية. ويبدو أنه يصعب التطرق لعمارة المتوسط في الوقت المعاصر دون أن يمتد الحديث إلى عمارة المملكة على وجه الخصوص، بصفتها تجربة مثيرة لكثير من الأسئلة التي تفتح ملفات تاريخية متعددة.
وأنا في ندوة إسطنبول تذكرت فكرة نمو الأشكال التي تطرقت لها قبل عقدين وفي ندوة مشابهة تخوض في عمارة المتوسط دون أن تشير إلى الجزيرة العربية لكنها لا تهملها، وكأنها تؤكد أن الجزيرة امتداد طبيعي للمتوسط. وتنبهت، في الوقت نفسه، إلى فكرة قديمة كنت قد بدأت فيها ولم أكملها حول "الجذور المتوسطية في العمارة السعودية التاريخية"، وبدأت في إجراء مقارنة بين أشبيلية وتونس والهفوف، وحاولت أن أحدد بعض العناصر المشتركة بين هذه المدن الثلاث، ووجدت أن الهفوف أقرب إلى أشبيلية من تونس، وكان هذا خلافاً لما كنت أتوقعه. ورغم أن المدن الثلاث تنتمي إلى منابع ثقافية متقاربة، إلا أنني لاحظت أن الفكرة التي بدأت بها يفترض أن تكون "الجذور الصحراوية للعمارة المتوسطية" وليس العكس، إذ يبدو أن عمارة الصحراء لم تتأثر بعمارة الثراء والوفرة التي كانت تميز حوض المتوسط، بل إن كثيراً من العناصر المعمارية التي صنعتها الصحراء تسربت إلى المدن الثرية.
هذه مشاهدات شخصية وليست مبنية على دراسة علمية دقيقة، لذلك يمكن أن أقول: إن فهم آليتي "التّأثر" و"التكيّف" بين المتوسط والجزيرة العربية يمكن أن يفتح آفاقاً واسعة لفهم كثير من الجذور الثقافية التي ساهمت في خلق ثقافة الجزيرة العربية، فهذه الجذور شكلت الحضارات الإنسانية الأولى، وربما تكون تراجعت في فترات تاريخية معينة، لكن الحوار مع المتوسط لم ينقطع، رغم أن البعض يعتقد أن الارتباط مع الشرق ووسط آسيا في القرون الأخيرة أكثر وضوحاً. الجدير بالذكر أن الدراسات في أصول الأفكار والأشكال تكاد معدومة، خصوصاً فيما يتعلق بالجزيرة العربية وعمارتها وثقافاتها المتنوعة، ولم يتم النظر لها بجدية إلا في السنوات الأخيرة بعد تصاعد دور المملكة ودول الخليج، وهو تصاعد يمس مستقبل العالم، ويبدو أن هذا العالم بدأ يتحرك من أجل أن يفهم كيف "تشكلت ثقافة الجزيرة العربية".




http://www.alriyadh.com/1978509]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]