المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مُلحَةُ الوَدَاعِ



المراسل الإخباري
11-05-2022, 03:10
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png وردت هذه العبارة (ملحة الوداع) في بعض كتب الأدب القديمة، وقد رصدتُها تحديداً عند أبي حيان التوحيدي (ت 400هـ) في كتابه (الإمتاع والمؤانسة)، الذي بناه على سبع وثلاثين ليلة جالس فيها أحد وزراء عصره، ثم كتب ما دار بينهما في تلك المجالس الليلية فهذّب تلك الليالي وجمعها، ودفع بها إلى صديقه الذي قرّبه من ذلك الوزير، وكان الوزير يطرح عليه أسئلة كثيرة مثيرة في مسائل مختلفة، فيجيب عنها أبو حيّان، فلما اكتمل عقد تلك المسامرات، طلب صديق أبي حيان أن يقص عليه تلك المسامرات، فأجاب أبو حيان طلب صديقه، ونزل عند رغبته، فدون له ما دار في تلك الليالي، فكان هذا الكتاب (الإمتاع والمؤانسة).
وقد حرص التوحيدي في مسامراته الليلية تلك أن يختم بعضها بــ(ملحة الوداع)، عندما ينقضي المجلس، وينفض السامر، وينتهي الحديث، فتأتي هذه العبارة (المُلحة) لتغلق المسامرة، وتمّهد لأخرى تأتي من بعدها، يقول مثلاً في نهاية الليلة الأولى: «فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات، وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات (ملحة الوداع) حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث»، فطلبه (ملحة الوداع) جاء لغاية مهمة وهي (الافتراق)، ثم (الانتقال)، وهو ما تدعو إليه جماليات الخواتيم.
وفي الليلة الثانية يغيّر التوحيدي تلك العبارة، فينعت هذه الملحة بوصف آخر، حيث يطلق عليها (خاتمة المجلس)، يقول مثلاً: «قال: هذا في الحسن نهاية، وقد اكتهل الليل، وهذا يحتاج إلى بدء زمان، وتفريغ قلب، وإصغاء جديد. هات (خاتمة المجلس) …»، وفي مجلس آخر يقول: «إن الليل قد دنا من فجره، هات ملحة الوداع»، وعادة ما تكون هذه الملحة نادرةً لطيفة، أو شعراً رقيقاً، أو حكمة مؤثرة، أو ما شابه ذلك؛ ومن هنا لم يكن التوحيدي في (ملحة الوداع) حريصاً على إنهاء المسامرة فحسب، ولم يكن مخاطبه (الوزير) كذلك، بل كانا حريصين على أن يحصل الانتهاء على نحو من الانتشاء؛ فالهدف من المُلحة إنما هو ختم الحديث ختماً يبعث على التشوق لليلة أخرى، والتلهف على مجلس آخر.
ويصح أن نطبّق (مُلحة الوداع) على كل انتهاءٍ يحرص صاحبه على أن يكون جميلاً، أو لطيفاً، أو طريفاً، أو باعثاً على الدهشة والاستغراب، فــ(مُلحة الوداع) هي ضرب من حسن الختام؛ ذلك أنها تُقفِل الموضوع إقفالاً يحمده المتلقي، ويرتضيه، وربما يسعد به، أو يتعجب منه، أو يتشوق من خلاله، والمقصود أن تُحدِث تلك المُلحة في النفس ما يحمل على طرد السأم، والملل, أو الضجر، والتبرم، أو السخط والكآبة؛ لذلك فإن (ملحة الوداع) ترتكز على مبدأ تواصلي مهم، إذ تنطق بجمالية بلاغية، وتداولية أحياناً، وبخاصة إذا أحسن صاحبها مراعاة ظروف التلقي, وأحوال التخاطب، أيا كان ذلك التخاطب، شفاهياً، أم مكتوباً.
إن (ملحة الوداع) ستارٌ يسدله الإنسان على أي قول، أو فعل، أو سلوك، أو تصرف يقوم به، أو يؤديه، أو ينتج عنه؛ ولهذا فإننا قد نلمسها في غير موضع، أو نسوقها في أي غرض، أو موضوع، وما أحسن الختام حين يأتي بمُلحةِ وداعٍ تطرد الملل، وتسد الخلل، وتجمّل العمل.




http://www.alriyadh.com/1980977]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]