المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأَزمَات وتصَاعُد الهيمَنة الأميركية عَالمياً



المراسل الإخباري
11-09-2022, 03:30
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
لقد أبدعت الولايات المتحدة إبداعاً عظيماً في استغلال الظروف والأزمات والصراعات الدولية لتُعزز مكانتها؛ ولترتقي بمستوياتها العالمية، حتى تمكنت من تحقيق الهيمنة المُطلقة على السياسة العالمية، وأن تضمن لنفسها هذه المكانة لعدة عقود قادمة..
الاستغلال الأمثل للأزمات والصِراعات الدولية صِفة تميزت بها الولايات المُتحدة الأميركية مُنذُ إعلان استقلالها في العام 1776م، ولم تجارها في ذلك أية دولة أو قوة من القوى العظمى التي عرفتها البشرية خلال الأربعة قرون الماضية. وهذا الاستغلال للأزمات يأخذ صِفة الإيجابية - وليس السلبية - لأنه يهدف لتعزيز المنافع، وتحقيق المصالح، وخدمة الدولة والمجتمع والشعب، والارتقاء بها للمستويات التي تجعلها في مكان الصدارة والريادة والقيادة العالمية. وهذه القيم والمبادئ والأهداف والغايات المُراد تحقيقها - خاصة أوقات الأزمات والصراعات الدولية - لا تُذكر مباشرة، ولا يُتحدث بها علناً، ولا يُشار إليها في الخطابات الرسمية والإعلامية، وإنما يُسعى لها بعد تغطيتها وتغليفها بقيم ومبادئ وسلوكيات وممارسات تغلب عليها المشاعر الإنسانية والأخلاقية والحضارية لتبدوا هذه الدولة بتدخلها ووقفتها وخطاباتها، أمام الرأي العام العالمي، بأنها الدولة التي تنصر المظلوم والمعتدَى عليه، وتقف مع الضعيف والمُحتاج، وتُحقق السلام والمساواة، وتُحافظ على العدالة والأخلاق. وبهذه القيم والمبادئ والسلوكيات والمُمارسات المُغلفة بالمشاعر الإنسانية والأخلاقية تمكنت الولايات المتحدة - باحترافية عالية جداً - من تحقيق أهدافها وغاياتها السياسية والاقتصادية والصناعية والأمنية والعسكرية والتكنولوجية بالشكل الذي جعلها إحدى القوى العظمى الرئيسية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والقُطب الأوحد والمُهيمن على السياسة الدولية مُنذُ 1991م. وهذا التوظيف للقيم والمبادئ لتحقيق الأهداف والغايات السَّامية للمجتمع والدولة والشعب - خاصة أوقات الأزمات والصراعات - مسألة محمودة في العلاقات الدولية، وأمر مشروع في السياسة الدولية، حيث إن كل دولة ونظام، وأية مجتمع وأمة، تسعى للسُّمو والارتقاء بمكانتها للمستويات التي تجعل منها دولة ومجتمعا وأمة عظيمة وقوية ومُهيمنة على غيرها من الدول والمجتمعات والأمم، وهذا الذي مارسته الولايات المتحد خلال فترات من تاريخها المُمتد لقرنين ونصف القرن من الزمان.
إذاً نحن أمام منهج مشروع في السياسة الدولية حتى وإن كانت المصطلحات والكلمات والممارسات والسلوكيات توحي بالسلبية والتناقض والتعارض. فالأزمات والصِراعات تبدوان مُصطلحات سلبية، إلا أنها للمُنتصِر والمُستفيد تبدوان إيجابية تماماً. والاستغلال تبدو كلمة سلبية، إلا أنها للمُتَحيِّن للفرص والمستثمر والمنتفع تبدو إيجابية إلى أبعد الحدود. والهيمنة تبدو مُصطلحاً سلبياً، إلا أنها للسَّاعي للسيطرة والباحث عن امتلاك القدرة المُطلقة تبدو أمراً مشروعاً وواجب الأداء. فإذا أدركنا الإيجابية لهذه القيم والمبادئ المؤثرة في العلاقات الدولية والمُحفِزة لِحركة السياسة الدولية، فإننا نُدرِك مدى الاحترافية التي عليها الولايات المُتحدة في تخطيطها ورسمها وإدارتها لسياساتها الخارجية والدولية والعالمية مما مكَّنها من أن تُصبح قوة عظمى مُنذُ إعلان استقلالها، والقُطب الأوحد في السياسة العالمية في وقتنا الحاضر. نعم، لقد أبدعت الولايات المتحدة إبداعاً عظيماً في استغلال الظروف والأزمات والصراعات الدولية لتُعزز مكانتها الدولية، ولترتقي بمستوياتها العالمية، حتى تمكنت من تحقيق الهيمنة المُطلقة على السياسة العالمية، وأن تضمن لنفسها هذه المكانة لعدة عقود قادمة. وللتأكيد على هذا المنهج الإبداعي والاحترافي للسياسة الخارجية والدولية والعالمية التي انتهجتها الولايات المتحدة لتعزيز مكانتها الدولية والعالمية، نعرض بعضاً من الأمثلة البعيدة والقريبة التي توضح استغلال الولايات المتحدة للأزمات والصراعات الدولية لتعزيز وتقوية مكانتها في السياسة العالمية.
فخلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م)، سعت الولايات المتحدة لتعزيز مكانتها الاقتصادية والصناعية والمادية والمالية من خلال تبنيها لسياسة الحياد في الثلاث سنوات الأولى من الحرب مما مكنها من التعامل مع الأطراف الأوروبية المُتصارعة. وبعد أن كانت أوروبا تعتمد على نفسها اقتصادياً وصناعياً ومادياً ومالياً، أصبحت ونتيجة للصراع المُدمر القائم بينها تعتمد على الولايات المتحدة لتغطية النقص في السلع التجارية والغذائية والصناعية والخدمية وغيرها من منافع ومصالح، حتى أصبحت المصدر الرئيس الذي تعتمد عليه أوروبا خلال الحرب. وبالإضافة لهذه المنافع، ومع انهيار النظام الاقتصادي والمالي في أوروبا نتيجة للحرب، أصبحت العُملة الأميركية الأكثر قوة وموثوقية على المستويات الدولية في ظل تراجع أسعار العملات الأوروبية، وأصبح الاقتصاد الأميركي الأكثر قوة خاصة بعد أن قررت بريطانيا وفرنسا وروسيا تعويض نزول عملتها بإرسال كميات من الذهب لضمان سعر عملاتها أمام الدولار. وهذه السياسة الأميركية خلال الحرب العالمية الأولى مكنتها من تقوية اقتصادها، وتنمية صناعاتها، وزيادة المساحات الزراعية، وحل مسألة البطالة، بالشكل الذي جعلها القوة الاقتصادية الأولى عالمياً على حساب القوى الأوروبية. وهذه المكانة الاقتصادية والصناعية التي اكتسبتها الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى عززت من مكانتها السياسية والأمنية والعسكرية على المستويات العالمية في فترة ما بعد الحرب.
وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م)، ونتيجة للصراع المُدمر بين القوى الأوروبية، أصبحت الولايات المتحدة المُزود الرئيس للمواد الاقتصادية والصناعية والتجارية والسلع والخدمات وغيرها من مجالات مما ساهم بتقوية اقتصادها وصناعاتها وقوتها المادية كما حدث في الحرب العالمية الأولى. وخلال سير عمليات الحرب، أصدر الكونغرس الأميركي في مارس 1941م قانون "الإعارة والتأجير" الذي سمح للحكومة بأن تصنع أو تشتري معدات وأدوات حربية ومواد غذائية لكي توضع تحت تصرف الدول الأجنبية التي يمثل الدفاع عنها مصلحة حيوية لأمن الولايات المتحدة. وهذه السياسة الأميركية خلال الحرب ساهمت مساهمة عظيمة في تعزيز مكانتها العالمية في المجالات السياسية والاقتصادية والصناعية والتجارية والأمنية والعسكرية واللوجستية حتى أصبحت - خلال وبعد الحرب - قائداً وحيداً للمُجتمع الرأسمالي الغربي، بعد أن أزاحت بريطانيا من القيادة الدولية والعالمية وحلت محلها.
وخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988م) استغلت الولايات المتحدة حالة الفوضى الأمنية التي مارسها النظام الإيراني المُتطرف في مياه الخليج العربي، وتهديده باستهداف ناقلات النفط العابرة مياه الخليج العربي، لتبرير تواجدها الأمني والعسكري في المنطقة. وخلال أزمة احتلال الكويت (1990 - 1991م)، رأت الولايات المتحدة في تلك الأزمة الفرصة المؤكدة لتثبيت تواجدها في منطقة الخليج العربي، تحت تبرير حفظ الأمن الإقليمي والعالمي، من خلال قواعد عسكرية دائمة تُعزز مكانتها السياسية والأمنية والعسكرية على المستويات العالمية. وخلال هاتين الأزمتين تضاعفت مكانة الولايات المتحدة العالمية، وعلى حساب الاتحاد السوفيتي بشكل خاص.
وخلال الأزمة الروسية الأوكرانية (2022 - حتى الآن)، استغلت الولايات المُتحدة الصراع لتعزيز مكانتها العالمية بفرض عقوبات شاملة على روسيا - المتطلعة لمُنافسة أميركا - وعزلها عن أوروبا تماماً، وفي نفس الوقت عملت الولايات المتحدة على تعزيز تواجدها في القارة الأوروبية، خاصة من خلال تصدير الغاز الأميركي للأوروبيين تعويضاً عن الغاز الروسي الذي فُرضت عليه عقوبات أميركية بشكل أساسي. وبهذه الأزمة تمكنت الولايات المتحدة من عزل روسيا عن أوروبا، وفُرضت مزيدا من الهيمنة الأميركية على أوروبا، وجعل أوروبا مُعتمدة تماماً على الغاز الأميركي بشكل أساسي، بالإضافة لتوجه الولايات المتحدة لاستنزاف أوروبا مالياً من خلال بيع الغاز بأسعار مرتفعة جداً تصل لأربعة أضعاف السعر الذي تبيعه روسيا للأوروبيين، وكذلك لرغبة الولايات المتحدة جعل أوروبا معتمدة تماماً عليها في المسائل الأمنية والعسكرية واللوجستية. فالولايات المتحدة استغلت هذه الأزمة لمُضاعفة هيمنتها العالمية، وفي نفس الوقت استغلتها لإضعاف ومحاصرة وعزل روسيا عن المجتمع الدولي وخاصة الأوروبي، وجعلت من أوروبا أكثر من أي وقت مضى، رهينة للقرارات والسياسات الأميركية.
وفي الختام من الأهمية القول إن السياسة الدولية ترى في الأزمات والصِراعات الدولية فُرص عظيمة للدول المُحايدة لتُحافظ بذكاء على علاقاتها الدولية المُتوازنة، ولتُحقق بدهاء منافعها ومصالحها الاقتصادية والصناعية، ولتعزز بحكمة مكانتها الدولية، ولتؤكد بعقلانية على تفوقها وهيمنتها العالمية على جميع منافسيها وخصومها وأعدائها، وهذا الذي يُمكن قِراءته في سياسة الولايات المُتحدة، حيث أبدعت حينما قررت أن تبقى بعيدة عن ميادين الصِراعات المُسلحة، وأحسَنت عندما قررت استغلال الأزمات الدولية، لتحصُد تقدماً عظيماً وهيمنة عالمية مُطلقة في الوقت الذي تراجعت فيه كثيراً مكانة منافسيها وخُصُومها وأعدائها.




http://www.alriyadh.com/1981664]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]