المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترك الاستقصاء



المراسل الإخباري
11-10-2022, 04:03
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
قال بعضهم: «التغافل عن ذنوب الناس وعيوبهم من أخلاق الكرام، والتهاون بمفاضحتهم من أخلاق اللئام»، ولو احتاج المنصف إلى أن يُكاشف صاحبه بملحوظةٍ له عليه تتعلق بتقصيرٍ حصل منه بالفعل، فإنما الأسلوب الذي ينتهجه أن يُبديَ له من ذلك ما تمسُّ إليه الحاجة..
من الناس من يذهب بعيداً في تخطي القدر المأذون فيه بدعوى تعاطي المسموح، فيَحيف في حقوق غيره مدعياً التماسَ النَّصَفَةِ لنفسه، وهذا من الإفراط الذي لا يُحمد، ومن المجالات التي يكثر حصولُ هذا الإفراط فيها مجالُ التعرُّف على أحوال المخالط من صديقٍ أو شريكٍ أو زميلٍ أو نحوهم، فمن المعلوم أن الحيطة تقتضي أن تكون مداخلة الخليط مسبوقةً بالتبصُّر والاختيار وتأمُّلِ أحواله؛ لأن تأثيره على المرء عميق الأثر، فلا يقتصر على مُجْرَيات المعاملة وما تنطوي عليه من يُسرٍ أو عُسرٍ، وحفظٍ للأسرار والأمانات أو تضييعِها، وصيانةٍ للحقوق أو الإجحاف فيها، بل يتعدى كل هذا إلى التأثُّر به في سلوكه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»، لكن لهذا التبصر حدود إذا تجاوزها صار استقصاءً وتعدياً، ولم يُسهم في إرساء الأخوة، بل يُسرعُ باضمحلالها أو عدم انعقادها أصلاً، ولي مع الإفراط في الاستقصاء وقفات:
الأولى: التأمل في أحوال الصديق للإقدام على مُخالَّته ببصيرةٍ لا يُعطي الحق في تتبع سائر خبايا أموره، فمن الخبايا ما لا سبيل إلى الوصول إليه إلا بالتتبع والتنقيب غير المأذون فيه، فمن ادعى أن النظر المأذون فيه يخوِّله التفتيش المستقصِيَ، فقد ادعى ما لا يصح، وللإنسان خبيئاته التي يطويها عن غيره، ولا يلزم أن تكون مساوئ، بل قد تكون من أرجى عمله إليه، ويستُرها عن مسامع الناس وعيونهم، كما يُذكرُ في سير أهل الفضل والكرم أن رزقاً مجهول المصدر يجري على المعْوِزين والزَّمْنى والأرامل، ولا يُعرفُ من يُجريه عليهم إلا بانقطاع الرزق بموت فلان، ومن كان هذا حاله لو تتبع متَتبِّعٌ حالَه دقيقَها وجليلَها حتى اكتشف خبيئةَ معروفِهِ لكان مُتجنياً عليه، وإذا كانت المآثر والحسناتُ قد تُطوى لمصلحة، فلا يُرادُ ظهورها، فلا شك أن المعايب والسيئات أولى بالطيِّ والستر، والإنسان عرضةٌ للعثرات والغلطات، وقلَّما يخلو من إخفاقاتٍ وخيْباتٍ ومُلِمَّاتٍ مُوجعةٍ يستاء من ظهورها، وكثيرٌ من هذه الأمور منفكٌّ عن مجمل سيرته الذي يَحتاج غيره إلى معرفته ليجعله معياراً للتعامل معه، فلا يلزم من وقوعها عليه وجودُ ثُلمةٍ في سلوكه تُورثُ التضررَ بمعيته، فالتنقيب عنها تسوُّرٌ على عوراته وخصوصياتِه لم يأذن به شرعٌ ولا نظامٌ.
الثانية: يُخطئ من ادعى وجودَ مصلحةٍ للأخوة والصداقة في الكشف الزائدِ على الحدّ، المفضي إلى ظهور ما يكره الإنسان أن يُعرف عنه من خصوصياتِه وتفاصيل حياته، فهذه دعوى زائفةٌ تُصادمُ الواقع، وتُعاكسُ المصلحة، فترك الاستقصاء من أسباب دوام الصحبة ومن أخلاق الكرام وقد قال بعض السلف: "مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ"، ومن حسن حظ الخليط ألا يظهر له من صاحبه ما ينفِّره عنه مما هو أجنبيٌّ عن وجوه تعاملهما ولا أثر له في علاقتهما، بل أخو الصدق والخليط المنصف المخلص هو من لو انكشف له شيءٌ من تلك العيوب صدفةً لحَمى سمعَه عن أن يلِجَ منه شيءٌ إلى قلبِه، وغضَّ بصره عن أن يلمَحَ به ما قد يُشوِّه صاحبه، وقد قيل: (وعين الرِّضا عن كل عيبٍ كلِيلَةٌ)، أما من يستشرف لكشف المستور ومعرفة كل شاذَّة وفاذَّة من حياة الآخر، فما هو إلا ساعٍ في هدم الصداقة من حيث يدري أو لا يدري، وهل يستطيع هذا المنقِّب أن يدّعيَ أن من الناس من يرغب في صداقته لو انكشفت عيوبه ورُفع الحجاب عن أستاره؟ هيهات وكَلَّا، فرأس المال الستر، وبه حَسَّنَ الله تعالى صُورَ بعضِنا في أعين بعض، فمن سعى لرفعه عن غيره بالكلِّية فقد تسبَّبَ في بَتِّ حَبْلِ وصاله، ومن أمثال العرب: «لَوْ تَكَاشَفْتُم مَا تَدافَنْتم» ومعناه كما قال ابن الأثير: لَوْ عَلِم بعضُكم سَريرةَ بَعْضٍ لاسْتَثْقَل تَشييع جَنازته ودَفْنَه.
الثالثة: وراء المكاشفة الفجةِ مرحلةٌ أخرى أشدُّ إيغالاً في الأذى وسوءِ العشرة، وهي مرحلة الإفصاح عما اكتشفه، وإفشاء جميع ما استنتجه من أسرار صاحبه، كأنه يريد أن يساويَه غيرُه من الناس في الوقوف على أخصِّ خصوصيات أخيه مما يتأذى الإنسان بأن يعرفه عنه الآخرون، وهذا خلاف الأخلاق السامية والآداب الحسنة، فالكريم يتغافل ولا يسرُّه هتك الأستار، وقد قال بعضهم: "التغافل عن ذنوب الناس وعيوبهم من أخلاق الكرام، والتهاون بمفاضحتهم من أخلاق اللئام" ولو احتاج المنصف إلى أن يُكاشف صاحبه بملحوظةٍ له عليه تتعلق بتقصيرٍ حصل منه بالفعل، فإنما الأسلوب الذي ينتهجه أن يُبديَ له من ذلك ما تمسُّ إليه الحاجة، ويكفّ عن بقية ما قد يكون في ذكره كسرٌ للخاطر، فلا يهوِّنُ عنده نفسَه فضلاً عن أن يُقلّل شأنه أمام الآخرين.




http://www.alriyadh.com/1981822]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]