المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجودة بين نَزر وَوَفر



المراسل الإخباري
12-24-2022, 03:42
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png تنطلق الجودة من الجذر اللغوي (جود)، وتشير هذه المادة في معاجم اللغة إلى جودة الشيء، وتجويده، وتحسينه، كما في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، حيث جاء فيه ضمن مادة (جود): «جاد الشّيء يَجُودُ جَودَةً فهو جيد. وجاد الفرس يجود جُودةً فهو جوادٌ. وجاد الجواد من الناس يَجُودُ جُوداً. وقومٌ أجوادٌ. وجَوَّدَ في عدوِه تجويداً، وعدا عدواً جواداً»، ويلحظ من خلال ذلك أن الإجادة في كل شيء لا تنبعث إلا من خلال بذل المزيد من العمل إضافة إلى إتقانه، وذلك بغية الوصول إلى درجة من الاقتناع الذاتي، والإقناع الغيري، ولهذا لا يظهر العمل بصورة مرضية منذ أول وهلة، وإنما يبلغ شأنا من التميز والارتقاء كلما زاد مؤشر الأداء، مع تقبل الذات أو الآخر له، ومن ثم الوصول إلى مستوى من الرضا والاقتناع، والشعور بالارتياح، وتحقيق النجاح.
على أن إثبات الذات، وتطوير القدرات، وتنمية المعارف، والخبرات، إنما هي أمور مرتبطة بعدد المرّات، ولهذا اقترنت مؤشرات الأداء العملي أو الوظيفي مثلاً بالعدد أكثر من ارتباطها بالقوة أو الجودة، وتعلقت تلك المؤشرات بالكم أكثر من الكيف؛ لذلك تبدو براعة الطيّار مثلاً فيما يقطعه من أكيال وأميال، والطبيب فيما يفحصه من حالات، ويجريه من عمليات، والهندسي فيما يصممه من بناء، وإنشاءات، والفيزيائي، والكيميائي، وما شابههما فيما يقومان به من تجارب وتحليلات، ولاعب كرة القدم فيما يلعبه من مباريات، والأستاذ الجامعي فيما يكتبه من مقالات ودراسات، وفيما يحضره من ندوات، وملتقيات، ومؤتمرات، والمعلم فيما يقدمه من دروس وحصص وتوجيهات، والمزارع فيما يزرعه من بذور وأشجار وشتلات، والصانع فيما يبدعه من صناعات، والفنان فيما يرسمه من لوحات، والكاتب فيما يكتبه من كتابات، والشاعر فيما ينسجه من قصائد ويقدمه من أمسيّات، وهكذا كلٌّ في ميدانه وفنه.
على أن العبرة ليست بالكم فحسب، وإنما هي في اتحاد الكثرة مع الجودة، وفي تضام الوفرة مع الإتقان؛ ولهذا فعند النظر في فضاء الأدب – مثلاً - نجد أن ميدان الشعر والشعراء حافل بتنوع هذه المعايير، وتباين هذه المقاييس، ولقد كان النقاد كثيراً يستندون عليها، ويلجؤون إليها في معرض أحكامهم النقدية، فيقولون مثلاً: «شاعر مقل، وشاعر مكثر، وشاعر مجيد غزير الشعر، أو لم يعرف عنه سوى بعض الشعر، أو القصائد، أو ما شابه ذلك»، وكذا كان اللغويون يفعلون في توضيح الاستعمال اللغوي، فيقولون: «وهذا كثير، وهذا شاذ، ولم نسمع به، وهو مسموع لدى العرب، وهذا قبيح، وهو قليل، وهذا مستحسن»، فينطلقون من مقاييس الكثرة والجودة، والوفرة والحسن، والقلة والقبح، والشيوع والرواج، والمخالف والموافق، وهكذا، ومن يطالع كتاب سيبويه مثلاً، سيجد نماذج من تلك الأحكام كثيرة لا يمكن حصرها.
وفي أعلام الشعر العربي منذ القديم يُلحظ التباين في أسماء الشعراء، ومؤدى ذلك إلى هذين المعيارين كلما اتحدا واتفقا، وإنما فاق الشعراء غيرهم بكثرة شعرهم وجودته، وهو أمر معروف مثلاً عند امرئ القيس، وعنترة بن شداد، وحسان بن ثابت، وجرير، والفرزدق، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وابن زيدون، وأحمد شوقي، وغيرهم، ومثل ذلك الأمر ينسحب على ميدان النثر الفني، في الرسائل، والخطب، والمقامات، والرحلات، والقصص، والروايات، والمقالات، ونحوها، فالمعيار في ذلك كله هو (الوفرة والجودة)، وكذا الحال في سائر أمور الحياة.




http://www.alriyadh.com/1988957]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]