المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التمييز بين الخير والشر



المراسل الإخباري
01-26-2023, 19:15
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن الخيرات لا بد لها من قهر النفس وتحمُّلِ المشاقِّ التي يستلزمها تحصيلُ النافعِ والمحافظة عليه، ولا يخلو الخير من ذلك، أما الشر فكثيرٌ منه سهل المنال وما يحتاج منه إلى كدٍّ وتحصيلٍ فلا يخلو من تضمُّنِهِ أموراً تصبو إليها النفوس بطبعها..
وهب الله للإنسان من قابلية التمييز ما من شأنه أن يُفرِّق به بين الخير والشر؛ ليأتيَ الأولَ ويجتنبَ الثاني، ولا يكون في عافيةٍ من أمره إن هو لم يفعل ذلك؛ إذ لن يجد مَوْئِلاً يُعْفيه من مطلوبِية التسبُّب في جلب الخير ودفع الشر، فالخيرات والشرور مُحدِقةٌ بالإنسان في هذه الحياة، فلا غنى له عن الطلب والتوقي والاحتراز، بل يحتاج أحياناً إلى تقدير الأمور بمعيار دقيقٍ، فيتحمّل الشر اليسير المنطويَ على خيرٍ كثيرٍ، ويدفع بأهون الشرين أعظمَها، وما من إشكاليةٍ تُواجه الناس في ديانتهم ومعاشهم إلا وسببها تعطيل خاصِّيَّةِ التمييز بين الشرِّ والخير بالكلية، أو التخبطُ في استعمالها على غير الوجه المنتج للمطلوب جهلاً وقصوراً، أو تعَمُّدُ ذلك على وجه استغلال الآخرين واستغفالهم، وما من إنجازٍ تحمَد البشرية عقباه في دينها وحياتها إلا ويقف وراءه - بتوفيق الله وتأييده - قومٌ يعرفون كلاً من الخير والشر، ويتحرَّوْنَ إتيانَ ذاك وتجنُّبَ هذا، فعلى أيديهم يحِقُّ الحقُّ ويبطل الباطلُ، وتزدهر العلوم، وتعمر الأوطان وتتقدم، ويستَتِبُّ الأمن، ويعم الرخاء، ويصل كل ذي حقٍ إلى حقه، ولي مع التمييزِ بين الخير والشر وقفات:
الأولى: إنما ركَن بعضُ الناس إلى الشر مع ما يكتنفه من السلبيات والأضرار العاجلة والآجلة، وعزفوا عن الخير مع ما فيه من المنافع؛ لأن الخيرات لا بد لها من قهر النفس وتحمُّلِ المشاقِّ التي يستلزمها تحصيلُ النافعِ والمحافظة عليه، ولا يخلو الخير من ذلك، أما الشر فكثيرٌ منه سهل المنال وما يحتاج منه إلى كدٍّ وتحصيلٍ فلا يخلو من تضمُّنِهِ أموراً تصبو إليها النفوس بطبعها، وتَؤُزُّ الشهواتُ إلى تحصيلها، والخير الذي لا تكدره الشوائب هو الجنة، والشر الذي لا هوادة فيه هو النار، وقد تمثل فيهما هذا حقَّ التمثُّل، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»، متفق على معناه، وهذا الحديث لمسلم، وهكذا في أمور المعاش، فخصال التقدم والنباهة والسيادة لا يُحافظُ عليها إلا من وطّن نفسَه على مكابدة الشدائد بمختلف أنواعها، وقد صدق القائل:
لولا المشقَّةُ ساد الناس كُلُّهُمُ ... الجودُ يُفقِرُ والإقدام قتّالُ
ولم يزاحم الشرُّ الخيرَ لأجل تكافُؤِهما في أنفسهما؛ إذ لا يختلف العقلاء في أفضلية الخير بالنظر إلى ذاته، وفي أدونية الشر بذاته؛ ولهذا لا يدافع تارك الخير عن نفسه إلا بدعوى أنه لم يترك خيراً، فلم يسعْه أن يُوَلِّيَه ظهرَه حتى ألبسه لباساً استعاره له حيث زعم أنه شرٌّ، وإن أضمر في نفسه معرفةَ أن الأمر ليس كما قال، كما أن آتيَ الشرِّ لا يتجرؤُ على الدفاع عن موقفه إلا بدعوى أن ما يأتيه خيرٌ.
الثانية: قابلية التمييز لا تكفي لحصول التمييز بالفعل ما لم تُستثمر، وليس الناس سواء في وسائلِ استثمارها، فمنهم من يكون مرجعاً يُرجَعُ إليه لمعرفة الخيرات والشرور في تخصصه، ومنهم من لو استغلَّ مواهبه لكان بتلك المرتبة، فإذا نشط في جزئيةٍ إلى البحث والاستقصاء فيها كان له من البصيرة ما يُؤهله للتمييز، وإن آثر الإمساك عن البحثِ لم يكن له بد من الرجوع إلى غيره، ومنهم من قصارى تمييزه في الأمور المحتاجة إلى المعرفة أن يرافق الرفيقَ الملائم وأن يرجعَ إلى أهل الاختصاص الموثوقين، وهذا الصنف هو الأغلبية الكاثرة، هذا في الأمور الخاصة الجزئية، أما الشأن العام وقضايا الأمة فالشأن فيها موكولٌ إلى الإمام ومن ولاه منها ما رآه أهلاً لأن يقوم به، والتنظير الشرعي لتفاصيلها موقوفٌ على مجتهدي العلماء الموثوق بعلمهم وديانتهم، والمشهود لهم بالترفع عن الانسياق وراء الشعارات، والتسوُّرُ على الخوض فيها شرٌّ له تبعات غير محمودة العواقب.
الثالثة: لا يأتي الشرُ إلا نتيجة لسعي ساعٍ جلبه بشكلٍ أو بآخر، وأساليبُ جلْبِه كثيرةٌ منها الظاهر ومنها الخفي، ومنها ما هو من قبيل الأفعال بارتكاب الأفعال الخطيرة، ومنها تُروكٌ تتمثل في إهمال الأسباب، والزهد في الوقاية، والاسترخاء في مقام الحزم، كما أن الخير لا يذهب إلا بتفريطٍ من الإنسان إما بأن يجلب إليه من الشر ما يُزحزحه عن مكانه ويقضي عليه، وإما أن يتخلى عن الأسباب التي تبقيه وتمكِّن من المحافظة عليه، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقال ذو الإصبع العدواني أحد حكماء العرب: "يا معشرَ عدوان، إن الشرّ ميّت، وإنما يأتيه الحيّ فيصيبه، ومن اجتنب الشرَّ لم يَثِب الشرُّ عليه؛ يا معشر عدوان، إن الخير عَزُوفٌ أَلُوفٌ، ولم يفارق الخير صاحبه حتى يفارقه ولن يرجع إليه حتى يأتيه".




http://www.alriyadh.com/1994437]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]