المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المزاح بوصفه مقاماً



المراسل الإخباري
01-28-2023, 03:19
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png حدثني أحدهم قال: «كنتُ أمزح مع صديقٍ لي أودّه، وكان هذا الصديق سعيداً بمزحي معه، لكنني حين مزحتُ بالطريقة نفسها مع صديق آخر، امتعض، وتغير، وتكدّر مزاجه؛ فلم يتقبّل ذلك المزاح، حتى قلتُ في نفسي: عجباً لأمر الإنسان، وطبائع النفوس، واختلاف الأذواق، وتباين المقامات؛ فالخطاب واحد، لكن المخاطب مختلف»، وأضفت له بأن هذا الأمر ليس غريباً، أعني اختلاف المقامات، وتباين الطبقات، لكن الغريب هو أننا لا نستطيع أن نتعرف على ذلك الاختلاف، أو نتفطن له عندما نكون متحدثين؛ فمراعاة حال المخاطب مهمة جداً في التعامل معه، وهي أمر ضروري في معرفة أسراره، وعوالمه، وما يستتر وراءه من التفاصيل، ودقائق الأمور، وتنوع المشاعر، وتلوّن العواطف.
ولو تأملنا في معاجم اللغة لنتعرف على دلالات كلمة (مزح) لوجدناها تحوم حول معاني الدعابة، وملاينة الناس، والتبسط إليهم، ففي معجم (لسان العرب) لابن منظور (711هـ) مثلاً نراه يشير إلى أن: «‏(‏المَزْحُ‏)‏ الدعابة وبابه قطع، والاسم ‏(‏المزَاحُ‏)‏ و‏(‏المزاحَةُ‏)‏ بضم الميم فيهما‏.‏ وأما ‏(‏المِزاحُ‏)‏ بكسر الميم فهو مصدر ‏(‏مَازَحَهُ‏)‏ وهما ‏(‏يَتَمَازَحَانِ‏)‏‏»، وجاء في (تاج العروس) للزبيدي (1205هـ): «‏المَزْحُ الدُّعابةُ، وفي (المحكم) المَزْحُ نقيضُ الجِدِّ، مَزَحَ يَمْزَحُ مَزْحاً ومِزاحاً ومُزاحاً ومُزاحةً (...) نقل شارح القاموس أن المزاح المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية..».
ولئن كان المزاح شكلاً من أشكال كسر الحواجز بين الناس، وإزالة ما بينهم من حجب وحدود؛ فإنه قد لا يصلح مع كل أحد؛ إذ لا بد من مراعاة جانب المخاطب مراعاة دقيقة، وبهذا تتجلى قيمة المزاح المقامية، فهو أمر لا يتقبله الإنسان إلا حينما تتحقق فيه بعض الشروط، ومن أهمها: أن يراعي المازح مقام المزاح، وذلك بأن يختار له وقتاً مناسباً، وقدراً مناسباً، وأن يكون المازح ذا حس عالم بمزاج المخاطب الذي قد يتغير أو يتلون، أو يتقبل في حين، ولا يتقبل في أحيان أخرى، كما يجب عليه أن يختار الموضع المناسب، والشكل المناسب؛ فلا يسرف في مزاحه، أو يتعدى الحد المعقول، والقدر المقبول.
إن مراعاة رغبة المخاطب، والتنبه لنفسيته أمر مهم عند ممازحته، وقد ذكر الجاحظ في مقدمة كتابه (البخلاء) شيئاً من تداولية المزاح، فقال: «ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبيّن حجّة طريفة، أو تعرّف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه، إذا شئت، وفي لهو، إذا مللت الجدّ»، بل أشار إلى أن المزح مقام مهم، فبعد أن تحدث عن قيمة الضحك المتمحض عن المزاح، صرّح بمقامية المزاح، حيث قال: «وللضحك موضع وله مقدار، وللمزح موضع وله مقدار، متى جازهما أحد، وقصّر عنهما أحد، صار الفاضل خطلا، والتقصير نقصا. فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر، ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي له جعل الضحك، صار المزح جداً، والضحك وقارا».
ولئن ألمح التداوليون والمهتمون بالدرس الحِجَاجي إلى كثير من مقامات التخاطب والتواصل عموماً؛ فإن مقام المزح الذي يدخل ضمن إطار المقام الهزلي، أو الساخر، هو مقام في غاية الأهمية، وقد يكون باباً إلى التنفيس بين المخاطبين، وتسليتهم، وكسب مودتهم، لكنه في مقابل ذلك ربما كان سبباً إلى الشحناء، والبغضاء، والإزورار، والانكفاء، وكره الآخرين؛ ومن هنا كان هذا المقام دقيقاً.




http://www.alriyadh.com/1994701]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]