المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفن في الأزمات



المراسل الإخباري
02-16-2023, 03:27
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png الفن في أسمى صوره مثل العلم والفكر؛ فهو ينتمي إلى أنماط الطرق التي يحاول الإنسان من خلالها تنظيم العالم من حوله من خلال مواجهة أعمق الأسئلة التي تقابل البشر عبر الأجيال، ولأن المعضلات الوجودية تشتد إلحاحًا في زمن الأزمات عندما يتساءل المرء عن جدوى وجوده من عدمه، قد يظهر في مثل هذه الظروف الفنان الذي يعبر عن رد فعله تجاه المحن المحيطة بطرق مبتكرة تُثرى التراث الإنساني.
في المقابل؛ تنتشر في زمن الأزمات كذلك الرغبة في الهروب، فيتضاعف الطلب على الفن الترفيهي، الذي يُلهي عن التأملات المتعمقة، فيساعد على تحمل مشوار الحياة، باستهلاك الزمن حتى يأتي وقت الفناء. وهناك نوع من الفن الذي يزدهر بالذات وقت الأزمات؛ وهو الذي يسرد قصة (معتمدة) تشرح الظروف الصعبة، وتضعها في إطار يعطيها معنى يساعد على سيادة الطمأنينة، وهذه السردية ربما تجسد أقدم أنواع الفن.
في المجتمعات الحديثة المغلقة تأتي القصص المؤسس فيها في صورة ما يسمى (الفن الهادف)، الذي يهدف إلى فرض تصور رسمي يسرده بتفسير التاريخ بطريقة تعطي معنى معتمدًا للحياة الجماعية وتدعم وحدة الصف. في وقت الأزمات يمكن أن تجسد هذه الأنواع من الفن ردود أفعال مختلفة لانهيارات اقتصادية تصاحبها تغيرات عاصفة في العلاقات الاجتماعية.
خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ ازدهر وانتشر في النمسا وألمانيا الفن التحديثي الكاسر للحدود التعبيرية التقليدية في أعمال لأمثال شوبرج في الموسيقى وكريشنر في الرسم والباهاوس في التصميم والمعمار. التعبير الكاسر للحدود والمتحدي للثوابت يبدو مقلقًا في ظل الأزمات، بالذات لأنه يعكس الوضع المأزوم ويهدم منظومة القصص المطمئنة التي تقصها المجتمعات لأنفسها في سبيل ضمان استقرارها.
وبالفعل عندما انتخب الألمان هتلر، معتقدين أنه سيضع حدًّا لحالة الهرج والمرج والتشرذم الاجتماعي والسياسي التي سادت الأيام الأخيرة لجمهورية فايمار، بدأ الحزب النازي على الفور في التضييق، ثم منع ما سماه الفن (المنحط). لم يعارض النازي كثيرًا الفن الترفيهي، بل أنتج الكثير منه، كما أنتج كمًّا هائلًا من (الفن الهادف)، الذي حاول فرض سردية معتمدة وموحدة تفسر العالم على أساس قومي قبائلي، يمكن أن يعيش ويموت من أجله الإنسان الألماني.
لا يتذكر العالم شيئًا تقريبًا عن هذه المنتجات الثقافية النازية، فخصوصية الفن الهادف التلقيني تجعله عديم القيمة، لأنه ليست له تداعيات كونية على حياة الإنسان، في نفس الوقت دعم النازي بعض الفن الأصيل لاعتقاده أنه عبر عن روح الأمة الألمانية، وأنه كرس قصصهم المعتمدة: أي اعتقدوا خطأ أنه (فن هادف).
إن انغماس المفكرين والفنانين في الأزمات وفي نمط الحياة وفكر التعايش معها ومنطق التعاملات خلالها؛ يشغلهم فعلياً عن الإبداع الحقيقي والعميق، فلا بد من أخذ مسافة فوقية مناسبة تتيح للمفكر والمبدع مجالًا من الصفاء والمصداقية والنشاط الذهني، الذي يمكّنه من تناول الأسئلة الكبرى والتشابك معها، وأعتقد أن هذه خسارة كبيرة لأن استكشاف إمكانية تنظيم واقع الإنسان خارج الإطار الخانق الذي يفرضه الفن الهادف، ليس من الكماليات خلال الأزمات، بل لا بد من اعتباره شقّا أساسيًّا في مشوار إفساح السبيل لواقع أفضل.




http://www.alriyadh.com/1997866]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]