تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الأطباق الطائرة في حارة القرى



المراسل الإخباري
03-24-2023, 04:26
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
لم تكن هذه السطور مجرد ذكريات ولِهَة بالماضي بما يحمله من علامات فارقة بينه وبين الحاضر فحسب، وإنما تأملات في تربية الأجيال على كل ما ذكرناه من تفاصيل، كل تفصيلة منها تستدعي منا تأليف كتاب أو إنشاء دراسة..
لا شيء يعدل ذلك الحس الطفولي، حينما نعبر الطرقات قبل ساعة الإفطار في رمضان، في حارة صغيرة تكتظ بها الأزقة والممرات الضيقة، وتزكم أنوفنا رائحة الأطعمة المُعدة لتلك الساعة.
حارة القرى في مدينة أبها -على ضفاف جبال عسير الشاهقة-، التي جعلت من تقارب طرقاتها تقارباً اجتماعياً يحوي في مجمله أسرة واحدة، كل باب خلفه حكاية من حكايات الجدات الساهرات على وسائدنا كل ليلة لننعم بنوم يطوي في ثنياته خيالات تلك الحكايات.
تلك اللُّحمة الاجتماعية تجعلنا كأطفال أخوة وأخوات بشكل قاطع؛ فلا نظن أن أحدنا هو الآخر، لأننا نحن جميعنا نعرف بأننا الـ"نحن" وليس الـ"هو"، بشكل تنتفي معه كل ألوان الشوفونية والأنانية والعداء للآخر.
ذلك لأن كل امرأة في حارتنا لا نستطيع مناداتها باسمها، أو بكنية ابنها، فلا نقول سوى: أمي فلانة وأمي فلانة، وحتى الرجال منهم لا ندعوهم سوى بـ: "أبويه فلان وأبويه فلان" وهكذا. فكل امرأة منهن هي أمنا جميعاً، وكل رجل فيهم هو أب لنا كلنا، ولا نرى فيهم سوى حباً ينعصف في حنايا الصدر بعصف من المودة والأمان والهدأة، التي تعمل على تربيتنا تربية آمنة محبة للسلام الاجتماعي، وانتماء للأهل الذين يشكلون الوطن في نهاية المطاف.
ولهذا يأتي شهر رمضان الكريم بهذا التراكم الوجداني والبهجة والفرحة الغامرة، التي تجعلنا نحن الأطفال نشعر بسعادة هذا الشهر الكريم دون وعي منا بذلك التراكم العقائدي له، لأننا لا نزال أطفالاً صغاراً نهزج بالأغاني المفرحة والمبهجة ونجوب الطرقات ذات الأبواب المشرعة على الدوام، فالباب الموصد حينها لا ينم إلا عن بخل صاحبه وانغلاقه على نفسه وانطوائه عن الآخر، وهذا لن ولم يحدث فهو في عرف أهالينا سمة من سمات العيب ومأخذ من مآخذ ما يسمى بـ(خوارم المروءة) لديهم التي تجعل الفرد منبوذاً نبذاً اجتماعياً ضمنياً دون تصريح!
شهر رمضان حينما يعلن المذياع بتجلي هلاله، تنطلق من فوق جبل (ذِرَة) –الجبل الأخضر حالياً- طلقات مدفعه الذي أعد مسبقاً لتلك المناسبة، وما إن نسمع ضربات مدفعه حتى تعم الفرحة والتباريك بين الأهالي المنتشرين في كل مكان، يهنئ الكل الكل، وتتزاور الأسر، وحينها نشعر نحن الأطفال أن شيئاً ما قد حدث، ألا هو قدوم شهر رمضان بما له من بهجة في نفوسنا نحن الأطفال، فكل واحد منا يشعر أن هناك أطعمة وحلوى وتزاور للجيران وملابس جديدة سنلبسها في العيد الذي سيأتي في آخره.
لم تكن هذه السطور مجرد ذكريات ولِهَة بالماضي بما يحمله من علامات فارقة بينه وبين الحاضر فحسب، وإنما تأملات في تربية الأجيال على كل ما ذكرناه من تفاصيل، كل تفصيلة منها تستدعي منا تأليف كتاب أو إنشاء دراسة! لما لها في توطيد مفاهيم الحب والسلام والإخاء والولاء والترابط والربط بين العقيدة والسلوك الاجتماعي في ضفيرة واحدة تجعل الفرد منا لبنة قوية يشيد بها البناء الاجتماعي كله وبالتالي الوطن نفسه، فالإنسان ليس سوى ابن الست سنوات.
إن ما نشهده اليوم من مديَّنة الريف، وكذاك ترييِّف المدن حمل بين طياته سمة الانغلاق عن الآخر والتباعد، وأحياناً التنافر، والاستغراب في بعض الأحيان إذا ما أفشيت السلام على أحد، لأنه لا يعرفك ولا يعرف ما غرضك بأن تلقي السلام عليه.
هذا التفاوت السريع في السلوك المجتمعي ما هو إلا نتاج تلك الهجرة من الريف إلى المدينة؛ أو قل تنكر الريف لعاداته متيمناً بسلوك المدينة، فلا يبقى سوى عالم من الغربة والتباعد التي تضج بها الصدور مهما تنوعت أساليب الرفاهية فيها.
لماذا لا نتذكر تلك الأطباق الطائرة في طرقات الحارات، تحملها الصبية ذهاباً وإياباً قبل ساعة الإفطار، فينتقل الطبق -الصحن في لغتنا– بين المنازل وكأن الأطفال حينها نحل يطوف في الأماكن، كل طفل يحمل بين يديه نوعاً مختلفاً عما يحمله طفل آخر، فتتنوع المحمولات بتنوع الأطعمة لتنتج في النهاية تنوع مائدة عامرة في كل بيت، وكأنهم كلهم يأكلون من طبق واحد بأطعمة مختلفة.
إن التربية لطفل ينشأ ويتكون وجدانه على الإيثار والعطاء والاحترام والبهجة بالعقيدة التي هي عيده المرصع بالحب، هي ما تجعله في الآخر ينتظر شهر رمضان الذي أدرك حينما شبَّ أنه شهر الغفران والتراحم والعطاء بالتقرب إلى الله في النهاية.




http://www.alriyadh.com/2004148]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]