المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سَلام الأيديولوجيات.. دائمٌ أم مؤقت؟!



المراسل الإخباري
04-05-2023, 23:22
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن حالة السَّلام والتعاون والتقارب التي تتم بين مجتمعات ذات عقائد، أو أيديولوجيات، مختلفة ليست إلا حالة سلام وتهدئة مؤقتة هدفها تحقيق مصلحة مشتركة لا تتحقق إلا بالتعاون، وغايتها تحقيق مصلحة ذاتية على حساب الآخرين مهما كانوا مسالمين وقريبين ومتعاونين..
تاريخ السياسة الدولية –القديم والمتوسط والحديث والمعاصر– مليء بالأحداث السياسية بين المُجتمعات القائمة بمختلف أحجامها الجغرافية سواءً صغيرة أم كبيرة، ومستوياتها الاجتماعية سواء غنية أم فقيرة، ومكانتها الدولية سواء عالمية أو إقليمية أو ما دون ذلك. وهذه الأحداث السياسية بين المجتمعات تتراوح بين التعاون بمختلف مستوياته، والصراع بمختلف مستوياته، وذلك بحسب نوعية وأهمية المصالح التي تجمع المجتمعات، أو بحسب نوعية وعمق الاختلافات التي تفرق المجتمعات، وبناءً على تلك الحالات المختلفة والمتنوعة من التعاون أو الصراع بين المجتمعات وما ينتج عنها من أحداث سياسية، يُكتب تاريخ السياسة الدولية لتقرأه الأجيال جيلاً بعد جيل، ومن هذا التاريخ الممتد للسياسة الدولية بامتداد المجتمعات البشرية، نجد أن حركتها تأثرت تأثراً مُباشراً بطبيعة المجتمعات البشرية، وتوجهاتها الفكرية، وامتداداتها الحضارية والثقافية، وعقائدها الدينية، ومدى تجذر وصلابة قيمها ومبادئها وعاداتها وتقاليدها الإنسانية. وهذا التأثر بطبيعة المجتمعات البشرية ينعكس بالضرورة على التعاملات بين المجتمعات، ويؤثر في علاقاتها ببعضها، ويؤدي بالضرورة لمنهج عمل يتبعه كل مجتمع عند تعامله مع المجتمع الآخر. ومنهج العمل هذا، الناتج عن طبيعة وحضارة وثقافة ودين وعادات وتقاليد المجتمعات، يعني أن التعاملات بين المجتمعات أو الدول تكون مرهونة بحسابات دقيقة لتحقيق المصالح، وبحسابات عميقة وحساسة عندما تتعلق بالحضارة والثقافة والدين والعادات والتقاليد. وهذه الحسابات الدقيقة والعميقة والحساسة ليست إلا انعكاساً لرغبة كل مجتمع بالمحافظة على تاريخه وموروثه، والدفاع عن قيمه ومبادئه وحضارته وثقافته، وحماية عاداته وتقاليده ومكتسباته ومقدراته، والتعبير عن مصالحه بالطريقة والأسلوب والشكل الذي يراه ويناسبه. فإذا تقادمت السنون، وتراكمت تجربة المجتمعات، وتجذرت في نفوس البشر مبادئ وقيم الدين والحضارة والثقافة، وتوارثت عبر الأجيال العادات والتقاليد، أصبح لكل مجتمع من تلك المجتمعات عقائد صلبة لا يمكن تغييرها أو تحريفها أو التعدي عليها مهما كانت الظروف والأحوال، ومهما كانت إيجابية أو سلبية. وتزداد قيمة وصلابة هذه العقائد في المجتمعات بمدى خدمتها فكرياً وفلسفياً ودينياً وثقافياً من رموز ذلك المجتمع حتى يصبح الإيمان بها مقياساً للإيمان بالمجتمع ومستقبله، والدفاع عن وحدته وأمنه وقوته وتماسكه. وهذه العقائد الناتجة عن مجموع القيم والمبادئ الحضارية والثقافية، والتوجهات والطروحات الفكرية والفلسفية، والعادات والتقاليد والممارسات والسلوكيات المتوارثة، هي التي يطلق عليها إجمالاً مصطلح الأيديولوجية أو أيديولوجيا. فإذا أدركنا هذا العمق التاريخي للمجتمعات البشرية عبر مئات وآلاف السنين، وإذا أدركنا مدى اعتناء كل مجتمع بموروثه وحضارته وثقافته وعاداته وتقاليده، وإذا أدركنا مدى تأثير ذلك التاريخ والموروث بالطروحات الفكرية والثقافية والعملية في كل مجتمع من المجتمعات، فإننا ندرك مدى تأثير العقائد، أو الأيديولوجيات، في حاضر وواقع وتوجه كل مجتمع من المجتمعات. نعم، هذه العقائد أو الأيديولوجية التي تشكلت عبر السنين استطاعت أن تميز كل مجتمع عن الآخر حتى جعلت كل مجتمع يفتخر بما يملك من عقائد أو أيديولوجيا، بينما ينتقد أو ينتقص أو يتعدى على عقائد أو أيديولوجيات المجتمعات الأخرى. وهذا التطور السلوكي الأناني الناتج عن التفاخر بالعقائد أو الأيديولوجيات أدى بالضرورة مع تقادم السنين إلى تصاعد حالة العداء بين المجتمعات المختلفة عقائدياً أو أيديولوجياً على حساب حالة التعاون والتقارب التي كانت بين المجتمعات البسيطة والصغيرة.
نعم، إننا إذا نظرنا في تاريخ البشرية القديم والمتوسط والحديث والمعاصر، فإننا نرى بوضوح مدى تأثير الأيديولوجيات في علاقات المجتمعات أو الدول ببعضها. ففي العصور القديمة والوسطى (حتى 1600م) تصارعت الحضارة المسيحية الغربية مع الحضارة الفارسية، وتصارعت الحضارة المسيحية الغربية مع الحضارة الإسلامية، وتصارعت الحضارة الإسلامية مع الحضارة الفارسية، وهكذا حدث مع باقي الحضارات في ذلك الزمان سواءً في الشرق أو في المنطقة العربية أو في أفريقيا أو في أوروبا الشرقية والغربية. وكان جوهر ذلك الصراع رغبة كل طرف أو حضارة بإعلاء شأن حضارته وثقافته وقيمه وعاداته وسلوكياته على الآخر إيماناً بأنه الأفضل والأجدر بالتفوق والاتباع. وفي العصر الحديث (1600 – 1900م) تصارعت الحضارة المسيحية الغربية مع معظم الحضارات الآسيوية والأفريقية والأميركية الجنوبية، بالإضافة لاستمرار صراعها مع الحضارة الإسلامية. كما استمرت حالة الصراع داخل الحضارة الإسلامية على أساس مذهبي وطائفي وعرقي، وبينها وبين الحضارات الأخرى التي تجاورت معها في الشرق أو في الغرب، وكان جوهر هذا الصراع فكرياً وفلسفياً وعلمياً أولاً، ثم دينياً وثقافياً وحضارياً ثانياً. وقد أدى هذا الصراع الفكري إلى تجذر حالة العداء بين الحضارات؛ لأن الطروحات الفكرية والفلسفية الغربية تحديداً تباهت بتفوقها العرقي والحضاري أولاً، ثم الصناعي والعلمي والمالي ثانياً، على باقي الحضارات التي وقعت تحت الاستعمار المسيحي الغربي. وفي وقتنا الحاضر أو المعاصر (1900 – الآن) تصارعت الحضارة المسيحية الغربية مع بعضها على أساس فكري وفلسفي، وكان ذلك على مستويات عدة، مثل: الشيوعية ضد الرأسمالية، والنازية ضد الاشتراكية، والفاشية ضد البلشفية، كما استمرت حالة الصراع بين الحضارة المسيحية الغربية والحضارة الإسلامية، واستمرت حالة الصراع داخل الحضارة الإسلامية على أساس الانتماءات العرقية والمذهبية والطائفية، واستمرت حالة الصراع بين المسيحية الغربية والحضارات الآسيوية على مستويات عدة، كما أن حالة الصراع الفكري والفلسفي ما زالت قائمة بين المسيحية الغربية مع الحضارات الأفريقية والحضارات في أميركا الجنوبية. نعم، إنها الحقيقة التي احتوتها أحداث التاريخ البشري حتى وقتنا الحاضر، إذ حالة الصراع والصدام قائمة بين المجتمعات على أساس فكري وفلسفي وحضاري وثقافي وإن لم يسمى بذلك حقيقة. ولكن على الرغم من هذا التاريخ البشري المليء بحالات الصداع والصراع بين الأمم والحضارات والثقافات نجد هناك من يرى أو يجزم بإمكانية تأسيس حالة سلام بين الأيديولوجيات المختلفة، ويعتمد أصحاب هذه الطروحات المتفائلة بالسلام بين الأيديولوجيات بما تشهده الساحة الدولية في وقتنا الحاضر من حالات تقارب وتعاون وتنسيق بين حضارات مختلفة في غرب آسيا، وشرق آسيا، وشرق أوروبا، المتطلعة لمواجهة، بحسب اعتقادهم، طُغيان وضغوطات وهيمنة الحضارة الرأسمالية الغربية. فهل من الممكن الأخذ بمثل هذه الطروحات المؤمنة بإمكانية سلام الحضارات أو الأيديولوجيات وتناسي عمق التاريخ وأحداثه الجسام؟!
وفي الختام من الأهمية القول: إن حالة السَّلام والتعاون والتقارب التي تتم بين مجتمعات ذات عقائد، أو أيديولوجيات، مختلفة ليست إلا حالة سلام وتهدئة مؤقتة هدفها تحقيق مصلحة مشتركة لا تتحقق إلا بالتعاون، وغايتها تحقيق مصلحة ذاتية على حساب الآخرين مهما كانوا مسالمين وقريبين ومتعاونين. نعم، هكذا هي العقيدة الفكرية، أو الأيديولوجية، تؤمن بتفوقها الحضاري والثقافي، وتميزها الفكري والفلسفي، وعلو منزلتها العرقية والمذهبية، على غيرها من الحضارات والثقافات والأعراق والمذهبيات، حتى تصبح ثقافة شعبية ومنهجاً سياسياً وسلوكياً أخلاقياً تمارسه وتعبر عنه الحكومات تجاه بعضها. فإذا كانت العقيدة السياسية، أو الأيديولوجية، قائمة في أساسها على أساس التفوق وعلو المنزلة الذاتية، فإنها ستؤدي بالنهاية لحالة صدام وصراع حتى وإن فرضت المصلحة والظروف سلاماً مؤقتاً.




http://www.alriyadh.com/2006027]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]