المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عندما كنت قصيراً!



المراسل الإخباري
04-07-2023, 04:50
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
الفرد منا حر أبيّ، يرفل في ثوب الحرية منذ خلق، وإن لم يكن ذاب في دهاليز الحياة بحثاً عنها، فهل تتقارب الحرية مع ما ذكرناه من مثالب العصر الجديد بتقنياته وآليته وذكائه المفترض والمحتمل والمدخل بمدخلات لا تتبدل إلا بنا نحن بني البشر؟!..
حينما كنت قصيراً -(شبر ونص) كما يقال، ومثلي كل أقراني!- كنت أقترب من الأرض ومن الشجر ومن الحجر ومن البشر، أغوص كثيراً في كل شيء وأتابع التفاصيل، ذلك لأني كنت قصيراً! أمرح في داخلي، وأرقص بقلب نشوان يرفرف بين أضلعي كوريقات الزهرة المبتلة، لأني كنت قصيراً! تتسارع خطواتي خلف والدي أضعاف خطوته الواحدة، فأركض خلفه، فخطوته مثل عشرات خطوتي، لأني كنت قصيراً. أتابع الزهرات المرتعشة خوفاً من سطو الصخرة، فلا يرى ارتعاشها ولا يمس قلقها سواي، ذلك لأني كنت مثلها، كنت قصيراً!
أجوب طرقات في أبها وفي حارات القَرَى ومناظر والمفتاحة عبر منحنيات وتعرجات ضيقة، لكنها مليئة بالأُنس وبحكاوي العجائز القابعات أمام منازلهن ساعة كل عصر، يحكين تاريخاً عَبَر بذكريات وعِبَر الماضي، فألمح في أعينهن نشوته المجيدة. وحينما يأتي المساء أرتدي معطفي الشتوي وأربط منديلي الأصفر حول رأسي والذي يميز بنات جنسي في مدينتي، لأذهب مع والدي إلى ساحة البحار لأشاهد السينما المقامة كل ليلة في تلك الساحة التي تعرض فيلماً واحداً تعيده كل مساء. كنت أختنق من بين أرجل المشاهدين الوقوف، حينها أعتلي كتف أبي وأشاهد الفيلم من فوق أكتاف الناس ذلك لأني كنت قصيراً. لكننا حينما صرنا طوالاً، ارتفعت رؤوسنا فابتعدنا عن تفاصيل الحياة، ويبدو أن حدقاتنا لم تكن مؤهلة للرؤية عن بعد وببعد، فانتفخت ذواتنا، وتورمت أوداجنا حتى صارت أضعاف أضعافنا! واعتقدنا أننا عباقرة الكون بأسره، الكل عبقري، جهبذ، متكلم، ولا يعجبه أحد! وبناء عليه، أصبحت سمة الحوار بينا صراخاً متداخلاً فجاً مقاطعاً محتجاً ومنكراً لأي صوت آخر، فانتفى كل وضوح للرؤى، وتقلصت المفاهيم، وأوغرت الصدور، فأصبحنا نتلمس الطريق في ظلمة فكرية لا تلوي على شيء سوى الشتات والتشتت، والتعالي على الآخر، والتِّيه في مفازة العصر الجديد. لقد فقدنا الحس الراقي حينما أصبحت حواراتنا جلها تتسم بالإقصاء والاستبعاد، والاستفزاز، والعنف، والتشويه والتقليل من قدر بعضنا الآخر، في صراع مستميت لفرض الرأي الواحد، ذلك لأننا أصبحنا طوالاً!
في ذات يوم وجدتي تروي لي حكايتها التي ترويها لي كل ليلة، وكل ليلة تغير وتبدل في تفاصيلها وكان يزعجني ذلك، لأن الذهنية احتفظت بصورة منحوتة في خيالي لأبطال حكايتها والذين أصبحوا لي أصدقاء ورفقاء خيال. حينها أكملت لي حكاية تلك الطفلة التي صنعتها أيدي طفلين صغيرين من قصاصات ورق. وعينان زرقاوتان من الخرز ثبتاها بالإبرة على مساحة وجهها القطني، أتت من هناك من سهول سيبيريا من بين ركام الثلج المتسرب منه قطرات الماء، أتت تطالب بحقها في الحياة.
كنت أخالها حقيقة! طفلة الثلج البيضاء الجميلة التي كنت أصحو كل صباح أحدق في المرآة وأقارن الواقع بالخيال، فكان الخيال جمالاً والصدق مكتوباً على ممحاة الأقلام، ذلك لأني كنت قصيراً.
وها نحن اليوم طوالاً نستقبل صوفيا وسارة، عروستا الثلج المتأرجحتين بين الشرق والغرب، صوفيا بملامحها الغربية تحاول التأقلم وتنشد التوائم والمقاربة، لكن سارة بنت الجزيرة بكل تفاصيلها ولغتها ولهجتها تقف أمام هذه المقاربة وعلينا نحن التأمل.
عالم قادم من عوالم صوفيا وسارة، ونحن لا نزال نفتقد لثقافة الحوار ورقيه وسمته ورسمه على محيانا، بشكل عام صوفيا وسارة من الطيبين والأذكياء وحلالي العقد، وجمال يشغل خواطر البلهاء والمخدوعين، فأحببناهما ليس لهذا فقط، بل لأنهما جدات الآتي المشبع بفن الدبلوماسية (بفن الكذب المحكم)، ومثل ما قال والدي -رحمه الله- حينما يجد النفاق والمنافقين يقول (فهر زبيب) تذوقه تجده حلو المذاق وتعضه فتنكسر أسنانك، وهذا هو العالم الآتي بجيوشه التقنية والإلكترونية والذكاء الصناعي. ذكاء اصطناعي وهذا يكفي لكشف القناع عن وجوه العالم القادم والذي لا ندرك كنهه لأننا أصبحنا طوالاً.
الفرد منا حر أبيّ، يرفل في ثوب الحرية منذ خلق، وإن لم يكن ذاب في دهاليز الحياة بحثاً عنها، فهل تتقارب الحرية مع ما ذكرناه من مثالب العصر الجديد بتقنياته وآليته وذكائه المفترض والمحتمل والمدخل بمدخلات لا تتبدل إلا بنا نحن بني البشر؟!
يمكن أن تكون عبودية من نوع آخر يستمرق فيها الإنسان أصفاده المتفاخر بها! جاعلاً في تكوينه متضادين مخيفين، بين نشوة الحرية وأغلال العبودية وهو ما كان مطروحاً في حكاية فتاة الثلج تلك سلفاً. ذلك الطابع المأساوي المتناقض مع طبيعته، فإذا كان الإنسان بوصفه كائناً تتحكم فيه القوى الأولية، وتحركه الدوافع المادية والدوافع الحسية اللاشعورية، فإن عدداً آخر من المفكرين قد شهد للإنسان بأنه يتعذب من جراء سقطته أيما كانت وكيف أصبحت! ولذلك صار طويلاً!




http://www.alriyadh.com/2006349]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]