المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صراعات الإرث الاستعماري



المراسل الإخباري
05-10-2023, 03:19
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
صنعت قوى الاستعمار وورّثت خلفها أدوات تابعة لها تضمن استمرار حصولها على الموارد والثروات الطبيعية التي تحتاجها لاستمرار تفوقها الاقتصادي والصناعي والتقني، كما تضمن عدم وحدة أبناء المجتمعات المُتحررة، وعدم قيام تنمية اقتصادية حديثة، وعدم وجود استقرار سياسي وأمني..
رَحل الاستعمار ظاهرياً، إلا أنه بقي راسخاً مُتجذراً في باطن البلدان التي وُجِد فيها. نعم، فلقد جابت أساطيل القوى الاستعمارية أدنى الأرض وأقصاها سعياً وراء مصالحها السياسية والأمنية والعسكرية، وبحثاً عن منافعها الاقتصادية والصناعية والمادية، ورغبةً في تعزيز عوامل قوتها من الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة الرئيسة، هكذا كانت بدايات القوى الاستعمارية بمختلف مسمياتها: تحقيق المصالح الوطنية، وحماية الأمن القومي من عدوان المنافسين الدوليين، وتعزيز المكانة الدولية وصولاً للهيمنة العالمية. وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف الوطنية والقومية، بنت هذه القوى الاستعمارية أساطيلها البحرية القادرة على الذهاب شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بكل قوة ومهارة واقتدار، وزودت هذه الأساطيل المُحترفة بقوات عسكرية عالية التدريب والتأهيل والمهنية المطلوبة لخدمة الأهداف الوطنية المرسومة لها. نعم، لقد كانت البدايات، إلا أنها بدايات خُطّط لها بعناية شديدة لتحقّق الاستراتيجيات المطلوبة، والأهداف الوطنية والقومية المعتمدة على جميع المستويات وفي كل المجالات التي تتطلع لها القوى الاستعمارية، ومن تلك البدايات الاستعمارية، على أقل تقدير في عصرنا الحديث، قبل أربعة قرون تقريباً (مُنذُ 1600م)، تمكنت قوى الاستعمار الغربية من الوجود في بلدان وأماكن وأراضٍ عديدة حول العالم من أقصى الشرق الآسيوي مروراً بجنوبها وغربها ووسطها، وصولاً لقارة أفريقيا بمختلف مناطقها وأقاليمها، حتى شمل الوجود الاستعماري قارة أميركا الجنوبية، بالإضافة للصراع الدائم بين قوى الاستعمار الغربية داخل القارة الأوروبية. نعم، لقد تمكنت قوى الاستعمار بقدراتها العسكرية المتقدمة، وممارساتها المتطرفة والإرهابية، وسلوكياتها غير الإنسانية واللاأخلاقية، من فرض وجودها بقوة السِّلاح والقهر المُمنهج لسكان وشعوب تلك البلدان الفقيرة والمُستضعفة والمغلوبة التي سُلبت حقوقها وإنسانيتها. نعم، لقد كانت تلك البدايات حيث البحث عن المصالح والمنافع هدفاً، والأساطيل البحرية والقوات العسكرية واستخدام السَّلاح أداةً، إلا أن تلك البدايات لم تكن لها نهايات حتى يومنا هذا! فهل يُمكن قول ذلك على الرغم من تبني تلك القوى الاستعمارية الغربية لحق الشعوب في تقرير مصيرها وإقامة كياناتها الوطنية المُستقلة، وإعلان اعترافها باستقلال تلك البلدان والأوطان والدول حتى شملت جميع أقاليم ومناطق العالم؟!
إن الإجابة على هذا التساؤل المُباشر هي نعم، حيث إن الاستعمار المُباشر للأراضي بالقوة المُسلحة والقهر واستعباد الشعوب انتهى ظاهرياً، إلا أن الاستعمار بقي راسخاً ومتجذراً بما ورَّثته وصنعتهُ قوى الاستعمار من أدوات وظيفتها الوحيدة والرئيسة ضمان استمرار خدمة مصالح ومنافع وأهداف وغايات قوى الاستعمار مهما كانت التكلفة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية والانسانية. نعم، فبعد وصول قوات قوى الاستعمار الغربي لتلك البلدان والأوطان والأراضي المُستهدفة بالاحتلال، وبعد معرفتها بحجم الثروات والموارد الطبيعية والمادية والإنسانية والزراعية والحيوانية المتوفرة والكامنة، ونتيجة للأهمية الجغرافية والاستراتيجية التي تتمتع بها الكثير من تلك البلدان والأوطان والأراضي المُستعمرة، قررت تلك القوى الاستعمارية الاستمرار بالوجود في تلك المناطق حتى تضمن استمرار حصولها على الثروات والموارد التي تمكنها من مواصلة تقدمها الاقتصادي والصناعي والتقني، وبما يساعدها على تعزيز مكانتها الدولية والعالمية. وهذه القرارات أنتجت استراتيجيات استعمارية بعيدة المدى تبنتها قوى الاستعمار العالمية بحيث تضمن خدمة مصالحها ومنافعها في المستقبل القريب والبعيد ومهما كانت الظروف والأحوال القائمة في تلك المناطق والأقاليم. نعم، لقد وضعت قوى الاستعمار استراتيجية استعمارية بعيدة المدى تقوم في أساسها على صُنع أدوات بشرية داخل تلك البلدان والأوطان والأراضي التي استعمرتها لتكون تابعة لها، ومُنفذة لسياساتها، وخادمة لتطلعاتها وتوجهاتها ومصالحها، حال اضطرت للمُغادرة والرحيل تحت أية ظروف سياسية أو أمنية أو حدوث حركات احتجاجية شعبية ضد وجودها. وهكذا كان، فبعد قرون متتالية من الوجود الاستعماري المُسلح، وبعد قرون متتالية من صناعة الأدوات التابعة لقوى الاستعمار، وبعد قرون متتالية من بث الفتنة والفرقة الداخلية بين أبناء الشعب الواحد، بالإضافة لتشجيع الانتماءات الفئوية والدينية والمذهبية والعرقية داخل المجتمعات الواقعة تحت الاستعمار، تنافست تلك الأدوات التابعة لقوى الاستعمار فيما بينها لإثبات أيهم يستطيع خدمة مصالح ومنافع قوى الاستعمار بشكل أفضل ومستوى أعلى من الآخر. نعم، فعلى مدى قرون متتالية، عملت قوى الاستعمار باحترافية عالية جداً على تعميق حال الاستعمار من مستواه السياسي والاقتصادي والمادي والتجاري، إلى مستويات أعمق وأكثر أهمية تمثلت في الاستعمار الثقافي والأدبي والفكري لتتمكن عن طريق ذلك من سلب فئة من تلك الشعوب أخلاقها وإنسانيتها، ولتنزع من قلوب وعقول بعض من أبناء تلك الشعوب المُستعمرة قيم ومبادئ الولاء الوطني والقومي، مما يجعلهم أدوات سهلة الانقياد والتبعية لقوى الاستعمار التاريخية.
وهذه الاستراتيجية بعيدة المدى التي تبنتها قوى الاستعمار الغربية القائمة على تعميق حالة الاستعمار لمستويات ثقافية وأدبية وفكرية وأخلاقية أثبتت نجاحها على جميع المستويات بعد أن رحلت أساطيل وقوات القوى الاستعمارية عائدةً إلى عواصمها العالمية، وأثبتت هذه الاستراتيجية إبداعها عندما حصلت تلك البلدان والأوطان والأراضي المُستعمرة على استقلالها وأعلنت إنشاء دولها. نعم، فبعد أن كانت تطلعات شعوب تلك البلدان المُستقلة حديثاً بناء مجتمعاتها وتعزيز وحدتها الوطنية والقومية، وبعد أن كانت آمال أبناء تلك المُجتمعات المُحررة تحقيق تنمية اقتصادية وتعليمية وصحية وزراعية ترفع عنهم الفقر والجوع والأوبئة وترتقي بمستوى مجتمعاتهم ودولهم بين الدول والأمم، إذ يجدون أنفسهم في أوضاع بائسة أو أكثر بؤساً عما كانوا عليه تحت الاستعمار الأجنبي. نعم، لقد رحلت أساطيل وقوات قوى الاستعمار، إلا أنها صنعت وورّثت خلفها أدوات تابعة لها تضمن استمرار حصولها على الموارد والثروات الطبيعية التي تحتاجها لاستمرار تفوقها الاقتصادي والصناعي والتقني، كما تضمن عدم وحدة أبناء المجتمعات المُتحررة، وعدم قيام تنمية اقتصادية حديثة، وعدم وجود استقرار سياسي وأمني.
وفي الختام من الأهمية القول: إن الحروب الأهلية التي تحدث داخل المجتمعات وبين أبناء الشعب الواحد ليست إلا نتيجة من نتائج الإرث الاستعماري حيث تُمثل الأطراف المُتصارعة داخل المجتمع الواحد سياسات وأطماع وتوجهات قوى الاستعمار التاريخية حتى وإن أنكرت الأطراف المُتصارعة تبعيتها وعمالتها للخارج، أو ادعت قوى الاستعمار التاريخية رغبتها في إنهاء الصِراع. نعم، لقد رحلت أساطيل وقوات قوى الاستعمار الأجنبية عن مُستعمراتها، إلا أن أهدافها وغاياتها الاستراتيجية بعيدة المدى مازالت قائمة، وستظل كذلك، عن طريق أدواتها المُتعددة من عناصر وجماعات وميليشيات وتنظيمات وأحزاب، حيث تعمل من خلالهم على استنزاف الثروات والموارد والشعوب، وتسعى عن طريقهم لتقسيم المُجتمعات والدول.




http://www.alriyadh.com/2011491]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]