المراسل الإخباري
05-13-2023, 04:34
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن السر في اختلاف الأمكنة رغم ارتباطها بمصدر إبداعي واحد يكمن في دورة حياة كل منها وليس في صنع عمارة ونسيج عمراني متميز فقط. ويتفق الكثيرون على أن حياة المكان تكمن فيمن يسكنه، أي أن الأمكنة تحافظ على حيويتها طالما أن سكانها يقدّرون قيمتها ويشعرون بتاريخها..
لعلي أثير موضوعاً سبق أن تحدثت عنه وهو "أدب الرحلات المعماري"، فقد علق بعض الزملاء المهتمين بأدب الرحلات بأنه لا يوجد أدب رحلات دون الحديث عن المكان وعن العمارة، فحاولت أن أوضح لهم أنني أقصد بأدب الرحلات المعماري ذلك الأدب الذي يكتبه المعماريون وينقلون فيه مشاهداتهم المعمارية على وجه الخصوص حيث يختلط فيه التخصص بالمقدرة اللغوية الوصفية وتتبع حكايات الأمكنة وأساطيرها. على أرض الواقع لا يوجد مثل هذه الكتابات المعمارية الأدبية للأسف، ولعل ذلك يعود إلى إشكالية مرتبطة بطبيعة مهنة العمارة العملية التي تدفع بالممتهنين بها إلى التفكير الوظيفي أكثر من الشاعري. خلاصة القول إن محاولات تطوير علاقات بين الأدب والعمارة لم ترقَ حتى اليوم كي تجعل من العمارة ضمن اهتمام الأدباء ونقاد الأدب وبالتالي ظلت على هامش أي جدل فكري. هذه المقدمة الطويلة ما هي إلا من أجل نقل بعض الأفكار التي دارت في ذهني حول القاهرة وباريس، فقد زرتهما في فترة قصيرة قبل أيام، ولأن هناك روابط تاريخية بين قاهرة الخديوي إسماعيل وباريس "هاوسمان" فقد كنت أكثر انتباهاً للتفاصيل المعمارية ودورة حياة الأمكنة في كلتا المدينتين.
في طريقي للمطار يشدني دائماً مبنى "كولونيالي" في الموسكي المتأثر بالعمارة الأوروبية النيوكلاسيكية، فوقه تمثال لرجل يحمل الكرة الأرضية، ومكتوب على المبنى بالحروف اللاتينية TIRING، وكل مرة أرى هذا المبنى أشعر بغصة كيف تحولت الكنوز المعمارية في القاهرة الى خرائب نتيجة للتكدس السكاني. يقول الزملاء إن أي محاولة لإنقاذ هذا المبنى تتطلب تغييراً كبيراً في منطقة يستحيل وضع حلول لتراكم سنين طويلة من الإهمال للمكان ومن يسكنه. القاهرة الخديوية أو وسط البلد التي أمر بتخطيطها الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستعان بعمدة مقاطعة "السين" في باريس "هاوسمان" الذي خطط وسط باريس في تلك الفترة وتبنى نظام التخطيط الإشعاعي، ورغم أن "هوسمان" لم يخطط القاهرة مباشرة وأرسل بعض معاونيه إلا أن وسط البلد (حي الإسماعيلية سابقاً) تطور ليضاهي باريس "هوسمان" لكن الفرق بعد مرور 150 عاماً تقريبا أصبح كبيراً بين التجربتين.
وجدت أن السر في اختلاف الأمكنة رغم ارتباطها بمصدر إبداعي واحد يكمن في دورة حياة كل منها وليس في صنع عمارة ونسيج عمراني متميز فقط. ويتفق الكثيرون على أن حياة المكان تكمن فيمن يسكنه، أي أن الأمكنة تحافظ على حيويتها طالما أن سكانها يقدّرون قيمتها ويشعرون بتاريخها وتاريخ من سكنها قبلهم وهو يجعلهم ينتمون لها، بينما تفقد الأمكنة حضورها عندما تنفصل ذاكرتها عمن يسكنها فيفقدون انتماءهم لها. خلال زيارتي الأخيرة للقاهرة تذكرت كثيراً من مشاهداتي للمدينة خلال أكثر من ثلاثة عقود، وكيف أن أمكنة القاهرة التاريخية تسير باتجاه واحد وهو الانفصال عمن يعيش فيها، فأغلبهم مهاجرون من الأرياف لا تربطهم بتاريخ أمكنة المدينة أي رابطة. فلا غرو إذاً أن ترى جداراً مدهشاً في المدينة القديمة تغطيه لوحة إعلانية قبيحة، أو تشاهد مبنى يمثل قطعة نحتية كلاسيكية في شارع طلعت حرب في وسط البلد اقتطعت إحدى بلكوناته لوضع لوحة إعلانات ملابس نسائية.
يظهر لي أن خلق روح جديدة باستمرار في المكان هو الذي يبقي على الذاكرة المكانية ويصنع طبقات من الارتباطات البشرية مع المدينة حتى مع تغير السكان وتجدد الأجيال، ويبدو أن باريس وعت لهذه المسألة، فرغم أنها مدينة مهاجرين ورغم البعد الزمني بين من صنع أمكنة المدينة ومن يعيش فيها اليوم إلا أن ذاكرة المكان حاضرة في أذهان الجميع. قصص شوارعها ومبانيها وساحاتها وحتى زواياها الصغيرة يعاد سردها حتى للأطفال وتصنع حولها الحكايات والأساطير. لقد اكتشف من يدير باريس أن تجديد حياة الأمكنة مع الإبقاء على أصول وبدايات نشأتها وخلق سرديات حول دورة حياتها منجم اقتصادي لا ينضب. توقفت في اليوم التالي من سفري من القاهرة إلى باريس أمام مبنى يشبه أحد مباني وسط البلد في القاهرة وهو أنيق وكل متر مربع مستغل وباهظ التكاليف، وقلت: لماذا لم تصبح القاهرة هكذا وهي تملك كل المقومات، وتذكرت أن من يعرف قيمة تاريخ الأمكنة وذاكرتها في القاهرة آثروا أن يعيشوا بعيداً عند أطرافها وتركوا قلبها لغيرهم.
لعلي أعود لمقدمة المقال التي ذكرت فيها أدب الرحلات المعماري الذي لم ينضج بعد وربما لم يبدأ حتى، ويظهر لي أن هذا الأدب، إذا ما أصبح واقعاً في يوم من الأيام، يجب أن يخوض في دورة حياة الأمكنة وتحولاتها المعمارية والسكانية، وكيف تتجه الأمكنة إلى طرق مختلفة ومتباينة نتيجة لتغير ثقافي وسكاني حاد قد يطرأ عليها. يفترض أن يكون أدباً يشخص حالة المدينة بعمق ليس مجالها المادي المرئي فقط بل الأهم أن تستعيد الذاكرة غير المرئية ألقها حتى يصبح لكل ما نشاهده في المدينة معنى.
http://www.alriyadh.com/2012023]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]
إن السر في اختلاف الأمكنة رغم ارتباطها بمصدر إبداعي واحد يكمن في دورة حياة كل منها وليس في صنع عمارة ونسيج عمراني متميز فقط. ويتفق الكثيرون على أن حياة المكان تكمن فيمن يسكنه، أي أن الأمكنة تحافظ على حيويتها طالما أن سكانها يقدّرون قيمتها ويشعرون بتاريخها..
لعلي أثير موضوعاً سبق أن تحدثت عنه وهو "أدب الرحلات المعماري"، فقد علق بعض الزملاء المهتمين بأدب الرحلات بأنه لا يوجد أدب رحلات دون الحديث عن المكان وعن العمارة، فحاولت أن أوضح لهم أنني أقصد بأدب الرحلات المعماري ذلك الأدب الذي يكتبه المعماريون وينقلون فيه مشاهداتهم المعمارية على وجه الخصوص حيث يختلط فيه التخصص بالمقدرة اللغوية الوصفية وتتبع حكايات الأمكنة وأساطيرها. على أرض الواقع لا يوجد مثل هذه الكتابات المعمارية الأدبية للأسف، ولعل ذلك يعود إلى إشكالية مرتبطة بطبيعة مهنة العمارة العملية التي تدفع بالممتهنين بها إلى التفكير الوظيفي أكثر من الشاعري. خلاصة القول إن محاولات تطوير علاقات بين الأدب والعمارة لم ترقَ حتى اليوم كي تجعل من العمارة ضمن اهتمام الأدباء ونقاد الأدب وبالتالي ظلت على هامش أي جدل فكري. هذه المقدمة الطويلة ما هي إلا من أجل نقل بعض الأفكار التي دارت في ذهني حول القاهرة وباريس، فقد زرتهما في فترة قصيرة قبل أيام، ولأن هناك روابط تاريخية بين قاهرة الخديوي إسماعيل وباريس "هاوسمان" فقد كنت أكثر انتباهاً للتفاصيل المعمارية ودورة حياة الأمكنة في كلتا المدينتين.
في طريقي للمطار يشدني دائماً مبنى "كولونيالي" في الموسكي المتأثر بالعمارة الأوروبية النيوكلاسيكية، فوقه تمثال لرجل يحمل الكرة الأرضية، ومكتوب على المبنى بالحروف اللاتينية TIRING، وكل مرة أرى هذا المبنى أشعر بغصة كيف تحولت الكنوز المعمارية في القاهرة الى خرائب نتيجة للتكدس السكاني. يقول الزملاء إن أي محاولة لإنقاذ هذا المبنى تتطلب تغييراً كبيراً في منطقة يستحيل وضع حلول لتراكم سنين طويلة من الإهمال للمكان ومن يسكنه. القاهرة الخديوية أو وسط البلد التي أمر بتخطيطها الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستعان بعمدة مقاطعة "السين" في باريس "هاوسمان" الذي خطط وسط باريس في تلك الفترة وتبنى نظام التخطيط الإشعاعي، ورغم أن "هوسمان" لم يخطط القاهرة مباشرة وأرسل بعض معاونيه إلا أن وسط البلد (حي الإسماعيلية سابقاً) تطور ليضاهي باريس "هوسمان" لكن الفرق بعد مرور 150 عاماً تقريبا أصبح كبيراً بين التجربتين.
وجدت أن السر في اختلاف الأمكنة رغم ارتباطها بمصدر إبداعي واحد يكمن في دورة حياة كل منها وليس في صنع عمارة ونسيج عمراني متميز فقط. ويتفق الكثيرون على أن حياة المكان تكمن فيمن يسكنه، أي أن الأمكنة تحافظ على حيويتها طالما أن سكانها يقدّرون قيمتها ويشعرون بتاريخها وتاريخ من سكنها قبلهم وهو يجعلهم ينتمون لها، بينما تفقد الأمكنة حضورها عندما تنفصل ذاكرتها عمن يسكنها فيفقدون انتماءهم لها. خلال زيارتي الأخيرة للقاهرة تذكرت كثيراً من مشاهداتي للمدينة خلال أكثر من ثلاثة عقود، وكيف أن أمكنة القاهرة التاريخية تسير باتجاه واحد وهو الانفصال عمن يعيش فيها، فأغلبهم مهاجرون من الأرياف لا تربطهم بتاريخ أمكنة المدينة أي رابطة. فلا غرو إذاً أن ترى جداراً مدهشاً في المدينة القديمة تغطيه لوحة إعلانية قبيحة، أو تشاهد مبنى يمثل قطعة نحتية كلاسيكية في شارع طلعت حرب في وسط البلد اقتطعت إحدى بلكوناته لوضع لوحة إعلانات ملابس نسائية.
يظهر لي أن خلق روح جديدة باستمرار في المكان هو الذي يبقي على الذاكرة المكانية ويصنع طبقات من الارتباطات البشرية مع المدينة حتى مع تغير السكان وتجدد الأجيال، ويبدو أن باريس وعت لهذه المسألة، فرغم أنها مدينة مهاجرين ورغم البعد الزمني بين من صنع أمكنة المدينة ومن يعيش فيها اليوم إلا أن ذاكرة المكان حاضرة في أذهان الجميع. قصص شوارعها ومبانيها وساحاتها وحتى زواياها الصغيرة يعاد سردها حتى للأطفال وتصنع حولها الحكايات والأساطير. لقد اكتشف من يدير باريس أن تجديد حياة الأمكنة مع الإبقاء على أصول وبدايات نشأتها وخلق سرديات حول دورة حياتها منجم اقتصادي لا ينضب. توقفت في اليوم التالي من سفري من القاهرة إلى باريس أمام مبنى يشبه أحد مباني وسط البلد في القاهرة وهو أنيق وكل متر مربع مستغل وباهظ التكاليف، وقلت: لماذا لم تصبح القاهرة هكذا وهي تملك كل المقومات، وتذكرت أن من يعرف قيمة تاريخ الأمكنة وذاكرتها في القاهرة آثروا أن يعيشوا بعيداً عند أطرافها وتركوا قلبها لغيرهم.
لعلي أعود لمقدمة المقال التي ذكرت فيها أدب الرحلات المعماري الذي لم ينضج بعد وربما لم يبدأ حتى، ويظهر لي أن هذا الأدب، إذا ما أصبح واقعاً في يوم من الأيام، يجب أن يخوض في دورة حياة الأمكنة وتحولاتها المعمارية والسكانية، وكيف تتجه الأمكنة إلى طرق مختلفة ومتباينة نتيجة لتغير ثقافي وسكاني حاد قد يطرأ عليها. يفترض أن يكون أدباً يشخص حالة المدينة بعمق ليس مجالها المادي المرئي فقط بل الأهم أن تستعيد الذاكرة غير المرئية ألقها حتى يصبح لكل ما نشاهده في المدينة معنى.
http://www.alriyadh.com/2012023]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]