المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عندما غابت الدهشة



المراسل الإخباري
07-01-2023, 04:26
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
الدهشة مرتبطة بالتوقع، فعندما يكون أفق التوقع في حدود ما يمكن أن يتحقق يكون أي منجز يتجاوز المتوقع مدهشاً ويلفت الانتباه، المشكلة من وجهة نظري أنه في عالمنا المعاصر كل حدود التوقّع تكسرت، وأصبح كل شيء، وأقصد ذلك بالحرف الواحد «كل شيء» ممكناً..
يبدو أن البشرية تتجه إلى «اللادهشة»، فقد بعث لي زميل رداً على تغريدة لي مؤخراً، سوف أتحدث عنها في هذا المقال، كان رده هو قول مدير مكتب براءة الاختراع الأميركي عام 1889م «شارلز دويل» إن مكتبه سوف يغلق أبوابه لأنه يبدو أن كل شيء بحاجة إلى أن يُخترع قد اخترع فعلاً». هذا القول المبكر حول تراجع قيمة الفضول المعرفي، وتحول «الاختراع» و»الاكتشاف» إلى مجرد عمل تجاري يخلو من المتعة يشير إلى كيف أن البشرية عملت خلال أكثر من قرن على تحقيق هذه المقولة، وساهمت بشكل واضح في إضعاف متعة «الدهشة» التي تُشعر البشر ببعض السعادة وتربطهم بالحياة.
رد الزميل كان على قولي «لم يتبقَ في العمارة شيء يمكن أن يثير الدهشة»، وهو قول لم يظهر عندي فجأة بل كان نتيجة تراكمات لمشاهدات امتدت لعقود شعرت خلالها أن العمارة صارت تفقد دهشتها التي ميزت حضارات العالم عبر التاريخ الإنساني، وتحولت إلى منتج صناعي لا يثير أي دهشة مهما كان الشكل لافتاً، لأنه أصبح متوقعاً لا يدفع بأي تحديات حضارية أمام البشر. لا أعلم لماذا تطور هذا الإحساس لدي آخر عشر سنوات، فقد كتبت قبل ذلك حول فقدان الإحساس بمتعة الأشياء الصغيرة وحتى الكبيرة، وأن سبب تراجع الدهشة أن عين الإنسان أصبحت مكتظة بالصور التي جعلت كل شيء غير متوقع الحدوث في السابق أمراً بديهياً ولا يثير انتباه أحد، فقد سقطت كل التحديات التي كانت تجعل البشر تثير الأسئلة، وعنما يغيب السؤال تغيب الدهشة. ربما يجدر بنا أن نتساءل إلى أين سيؤدي بنا تراجع قيمة الأشياء لدينا؟ وهل سيكون له أثر على رغبة البشر في الشعور بتحقيق أي منهم إنجاز ما؟
غياب الدهشة، خطوة على طريق غياب السعادة لدى البشر، الأحلام الصغيرة لم تعد تكفي كي تدفع الإنسان للمتعة في الحياة، لم يعد تحقيق نجاح صغير يُشعر الإنسان بقيمة المُنجز. عندما كنت في مقتبل العمر، كانت قيمة الأشياء أعلى بكثير من اليوم بالنسبة لي، لم أكن أسأل نفسي: وماذا بعد؟ كنت أشعر عندما أحقق نجاحاً صغيراً أنني صعدت درجة كبيرة، وأن الحياة أصبحت قريبة من قبضة يدي، كانت تدهشني المشاهد الجديدة عندما أزور مدينة لأول مرة، كنت أكتب عنها وأحاول أن أنقل مشاعري في لحظتها عبر الكلمات، لكن بصراحة لا أعلم متى توقف هذا الشعور لدي، ومتى بدأت أتراجع عن كتابة مشاهدات المدن الجديدة، شعور صار يتصاعد لدي أنّ القارئ شاهد كل شيء وبات يعرف كل المدن حتى لو لم يزرها، تخمة الصور والمعلومات قتلت «الدهشة»، وأفقدت الجميع متعة المفاجأة، وجعلت الفضول يختبئ.
الدهشة مرتبطة بالتوقع، فعندما يكون أفق التوقع في حدود ما يمكن أن يتحقق يكون أي منجز يتجاوز المتوقع مدهشاً ويلفت الانتباه، المشكلة من وجهة نظري أنه في عالمنا المعاصر كل حدود التوقّع تكسرت، وأصبح كل شيء، وأقصد ذلك بالحرف الواحد «كل شيء» ممكناً، فكيف يمكن لأي فكرة جديدة أو منتج جديدة أو عمارة مختلفة أن تصنع الدهشة. نتحدث هنا عن ذلك الشعور الذي يجعل قلب الإنسان يقفز من مكانه، ويجعل حدقتي عينيه تتسعان من الانبهار، هذا الشعور يبدو أنه اختفى من الفعل الإنساني وربما ستتذكره الأجيال القادمة على أنه كان البشر في يوم من الأيام يندهشون وتظهر على وجوههم علامات الانبهار من الإنجازات الصغيرة، وأن هذا الشعور في لحظة تاريخية اختفى إلى غير رجعة. لن أقول إن خسارة هذا الشعور الإنساني الذي يصنع أعلى درجة المتعة سيدفع البشرية إلى ضياع جانب من إنسانيتها وتحويل البشر تدريجياً إلى مجرد آلات تفتقر إلى الإحساس والمتعة والفرح واللهفة، قد تكون هذه النتيجة بعيدة، إلى حد ما، لكنها غير مستحيلة.
حديثي عن غياب الدهشة، كان في يوم العيد، ويبدو أن دهشة العيد التي تراجعت حتى لدى أبنائنا هي التي أثارت لدي هذا الشعور من جديد، لكنه شعور قديم كما ذكرت، ويبدو أنه ارتبط بتطور وسائل التواصل الاجتماعي وسقوط الخصوصية الشخصية، عندما أصبح كل شيء مكشوفاً غابت المتعة. في العمارة كان «الغموض» ركناً من أركان استدراج فضول الاكتشاف وإحدى آليات خلق الدهشة، وعندما يكون كل شيء مكشوفاً لا يصبح هناك معنى للاكتشاف وتغيب المتعة. يبدو أن البشرية تواجه تراجعاً في قيمة الأشياء والأحداث، فكل شيء مكشوف ومعروف مسبقاً، ولم يعد هناك شيء جديد يُخترع، ولعل ما قاله الأميركي «دويل» قبل أكثر من 130 عاماً أصبح واقعاً صارخاً هذه الأيام.




http://www.alriyadh.com/2020395]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]