المراسل الإخباري
07-15-2023, 03:02
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png انطلق الناقد الروسي ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin في مبدأه الحواري من أن (الحوارية) هي كل علاقة تنشأ بين نص سابق ولاحق، ثم تبعه بعد ذلك الإنشائيون -كتودوروف وغيره- وأخذوا يعزّزون هذا المبدأ، فذهبوا إلى أنه "لا يوجد تعبير لا تربطه علاقات بتعبيرات أخرى"، حتى جاءت الناقدة البلغارية الفرنسية (جوليا كريستيفاJulia Kristeva) في كتابها (علم النص) فألمحت إلى مصطلح جميل في أثناء حديثها عن بعض النصوص السردية المتجانسة، إذ ذهبت إلى أن بعض الحكايات المتناصة تاريخيّاً تشبه في واقع الأمر: "فسيفساء لا متجانسة من النصوص"، مؤكدة بذلك على ما ينبغي أن يكون التناص عليه من جمالية، وليس تاريخيّة فحسب.
إن الناس يتناسلون لغتهم، وكلامهم، وخطاباتهم منذ عهد قديم، وزمن بعيد، غير أن المعول عليه في هذا الشأن هو معيار التمايز، والجودة، والجمال؛ لذلك وإن تشابهت النصوص في هيكلها اللفظي، غير أنها قد تختلف في جوهرها المعنوي، وسياقها الجمالي، كما هو حال بني البشر؛ إذ يتشابهون في هيكل أجسامهم، وأجسادهم، وربما ألوانهم، لكنهم يختلفون في أحجامهم، وأخلاقهم، ومظاهرهم، وهكذا هو حال النصوص والخطابات عموماً؛ لهذا فإن وصف (فسيفساء) هو وصف جمالي بامتياز.
ولئن جاز نقل الفسيفساء من مفهومها الفني التشكيلي إلى حقل نصي لغوي كما فعلت (جوليا كريستيفا)، فإنه بوسعنا نقلها إلى أنواع أخرى، ولعل من ذلك مثلاً (فسيفساء الأخلاق)، ونعني بها أن الأخلاق قد تتناص كما يتناص الكلام، وهو ما لم يتوقف عنده القدماء في كتابتهم حول فلسفة الأخلاق وتهذيبها، كـ(الجاحظ 255هـ) في كتابه (تهذيب الأخلاق)، و(مسكويه 421هـ) في كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، فإنهم لم يناقشوا فكرة (تناص الأخلاق)، أو مسألة (الحوارية الأخلاقية)، وما يتبع ذلك من تصنيف درجات الأخلاق، وترتيب مقاماتها، وتحديد مستوياتها.
وتزهو فسيفساء الأخلاق في وضوحها وجمالها في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال الله -تبارك وتعالى- عنه في محكم التنزيل: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"، فهو ليس بخلق فقط، ولكنه خلق عظيم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، فالإتمام هنا فيه إشارة إلى الإكمال، والتزيين، وهو ما يجعل من أمر الأخلاق أمراً جماليّاً (فسيفسائياً)؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: "البِّرُ حُسنُ الخُلُق"، وفي الحديث الآخر -وهو حَسَن- قال صلى الله عليه وسلم: "وخَالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَن"، فحسن الأخلاق هو غاية كمالها وجمالها، وفي هذا دليل بيّن على تناص الأخلاق وحواريتها.
ومن ينظر في التراث العربي سيجد نماذج كثيرة من تناص الأخلاق، فمثلاً يقول الشاعر العربي القديم: "أُحَدِّثُهُ إِنَّ الحَديثَ مِنَ القرى.."، ويقول الآخر: "وَما الخصب للأَضياف أَن يكثر القِرى / ولكنما وجه الكريم خصيب"، بل قد تتناص الأخلاق عربيّاً وعالمياً، كما في قول ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في ترجمته لابن خلكان: "ومن محاسنه أنه كان لا يجسر أحد أن يذكر أحداً عنده بغيبة"، ويقول الروائي الكولمبي (غابرييل ماركيز): "رائعون من يدافعون عنك أمام الناس، ويحفظون غيبتك وأنت لا تعلم".
إن ميدان الأخلاق يغدو أكثر رحابة وجمالاً كلما نظرنا إليه نظرة حوارية (فسيفسائية) تجعل منه لوحة فنية ذات زخارف بديعة.
د. فهد إبراهيم البكر
http://www.alriyadh.com/2022507]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]
إن الناس يتناسلون لغتهم، وكلامهم، وخطاباتهم منذ عهد قديم، وزمن بعيد، غير أن المعول عليه في هذا الشأن هو معيار التمايز، والجودة، والجمال؛ لذلك وإن تشابهت النصوص في هيكلها اللفظي، غير أنها قد تختلف في جوهرها المعنوي، وسياقها الجمالي، كما هو حال بني البشر؛ إذ يتشابهون في هيكل أجسامهم، وأجسادهم، وربما ألوانهم، لكنهم يختلفون في أحجامهم، وأخلاقهم، ومظاهرهم، وهكذا هو حال النصوص والخطابات عموماً؛ لهذا فإن وصف (فسيفساء) هو وصف جمالي بامتياز.
ولئن جاز نقل الفسيفساء من مفهومها الفني التشكيلي إلى حقل نصي لغوي كما فعلت (جوليا كريستيفا)، فإنه بوسعنا نقلها إلى أنواع أخرى، ولعل من ذلك مثلاً (فسيفساء الأخلاق)، ونعني بها أن الأخلاق قد تتناص كما يتناص الكلام، وهو ما لم يتوقف عنده القدماء في كتابتهم حول فلسفة الأخلاق وتهذيبها، كـ(الجاحظ 255هـ) في كتابه (تهذيب الأخلاق)، و(مسكويه 421هـ) في كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، فإنهم لم يناقشوا فكرة (تناص الأخلاق)، أو مسألة (الحوارية الأخلاقية)، وما يتبع ذلك من تصنيف درجات الأخلاق، وترتيب مقاماتها، وتحديد مستوياتها.
وتزهو فسيفساء الأخلاق في وضوحها وجمالها في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال الله -تبارك وتعالى- عنه في محكم التنزيل: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"، فهو ليس بخلق فقط، ولكنه خلق عظيم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، فالإتمام هنا فيه إشارة إلى الإكمال، والتزيين، وهو ما يجعل من أمر الأخلاق أمراً جماليّاً (فسيفسائياً)؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: "البِّرُ حُسنُ الخُلُق"، وفي الحديث الآخر -وهو حَسَن- قال صلى الله عليه وسلم: "وخَالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَن"، فحسن الأخلاق هو غاية كمالها وجمالها، وفي هذا دليل بيّن على تناص الأخلاق وحواريتها.
ومن ينظر في التراث العربي سيجد نماذج كثيرة من تناص الأخلاق، فمثلاً يقول الشاعر العربي القديم: "أُحَدِّثُهُ إِنَّ الحَديثَ مِنَ القرى.."، ويقول الآخر: "وَما الخصب للأَضياف أَن يكثر القِرى / ولكنما وجه الكريم خصيب"، بل قد تتناص الأخلاق عربيّاً وعالمياً، كما في قول ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في ترجمته لابن خلكان: "ومن محاسنه أنه كان لا يجسر أحد أن يذكر أحداً عنده بغيبة"، ويقول الروائي الكولمبي (غابرييل ماركيز): "رائعون من يدافعون عنك أمام الناس، ويحفظون غيبتك وأنت لا تعلم".
إن ميدان الأخلاق يغدو أكثر رحابة وجمالاً كلما نظرنا إليه نظرة حوارية (فسيفسائية) تجعل منه لوحة فنية ذات زخارف بديعة.
د. فهد إبراهيم البكر
http://www.alriyadh.com/2022507]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]