المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المدينة تتحدث



المراسل الإخباري
07-15-2023, 03:02
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
إن العاصمة الدنماركية تقدم نفسها كمكان للعيش وليس للسكن، وهذه العبارة في صيغتها العامة سمعتها من الأمير سلطان بن سلمان، فقد كان يقول دائماً يجب أن نعيش مدننا لا مجرد أن نسكنها، لكن كوبنهاغن تقدم دروساً خاصة في عيش المدينة والاستمتاع بمكونها العمراني والجمالي..
قبل أكثر من أربعة أعوام قمت بزيارة لعاصمة الدنمارك في شهر يناير في عز الشتاء، كنت مدعواً من قبل جامعة كوبنهاغن، وأذكر أنه رافقني في جولتي القصيرة الدكتور محمد المحمود، لأبدأ القول إنني لم أستطع فهم هيكل المدينة في تلك الزيارة والأمر الذي جعلني أتيقن أن لكل مدينة مفاتيح تقود إلى فهم "هيكلها" الذي يجعل أي زائر يقترب من جوهرها، غادرت المدينة وأنا لم أشفِ غليلي منها، وهذه لم تكن عادتي لكن الطقس كان حاد البرودة، طارداً للمشاعر، يتحدى الرغبة في الاكتشاف. كنت محملاً بكثير من الأفكار حول عاصمة المدن الإنسانية والظاهرة الأبرز لتقديم الإنسان على الآلة وتفضيله في الحركة والفضاء العام، لم أشعر أني اقتربت مما كنت محملاً به من تصورات، لكن المدن والأمكنة تبقى عالقة في النفس قبل الذاكرة، وربما ذاكرتي القصيرة مع هذه المدينة ظلت قاصرة حتى أتيحت الفرصة مرة أخرى لزيارتها مع "كونغرس" الاتحاد الدولي للمعماريين في مطلع هذا الشهر الميلادي.
طقس كوبنهاغن بارد غالباً حتى في الصيف لكنه مقبول في هذه الأوقات من السنة ويحث على الحركة، ومع ذلك يجب أن أقول إن المشي في شوارع هذه المدينة تصاحبه قصص وكأنها مكتوبة بحبكة بليغة، ولعل أول ما شد انتباهي وسيلة التنقل بـ"السيكل"، وهذه ظاهرة اسكندنافية قديمة لكن هناك نوع من السياكل يسمى Christiania Bikes، وهو عبارة عن عربة يمكن تغطيتها أثناء المطر أو الشمس الحارة، ووجدت أنها تحمل أحياناً أطفالاً إلى المدرسة وتتسع لستة طلاب صغار، يصعب وجود مثل هذا المشهد في مكان آخر، فالأمهات يحملن أطفالهن الرضع معهن وهن يسقن السيكل العادي دون خوف، هذه ليست وسيلة نقل فقط، بل ثقافة مجتمعية عميقة تطورت عبر السنوات لتجعل المجتمع بأكمله يتقبل فكرة المشاركة في المكان العام، وهي ثقافة تبعث على الراحة، فالمدينة للجميع ولكل حقه المحفوظ ولا أحد يعبث به.
لأذّكر القارئ العزيز أنني معماري، وكنت أبحث عن قصص العمارة بالقدر نفسه الذي كنت أبحث فيه عن المكان ومن يستخدمه، لذلك توقفت عند مبنى المكتبة الملكية المطل على القناة المائية، الكوبنهاغيون يسمون المبنى الجديد المضاف للمبنى التاريخي "الماسة السوداء" كون كتلة المبنى الجديد تتشح بالسواد، وصممها مكتب "شميدت هامر لاسن – Schmidt Hammer Lassen Architects"، المبنى جزء من حركة المشاة، وفي طرفه الآخر سلم يدعو زوار المكان للصعود والتمتع بإطلالة مختلفة على المباني خصوصاً على الجسر في الطرف الآخر الذي صممه النحات العالمي أولافور إلياسون (Olafur Eliasson)، الجسر (Cirkelbroen Bridge على قناة Christianshavns Kanal) يقع على المحور البصري للبهو الرئيس للمكتبة، ويمكن مشاهدته من خلال المطل داخل المكتبة في الطابق الرابع والسادس. يقول الدكتور خالد السلطاني عن بهو المكتبة إنه امتداد لأفكار الكنديين في الستينات الذين بدؤوا بفكرة الفضاء الداخلي الكبير، لكنني قلت له إنه فناء مثل أي فناء في مبانينا التاريخية لكن تم تغطيته.
المدينة تتحدث عن جوهرها من خلال هذه العلاقات البصرية المحورية ومن خلال إتاحة التعلم ورفع الذائقة الجمالية عبر المشاهدة وفتح المجال لرؤية عناصر المدينة المؤثرة، وسوف أشير هنا إلى عمارة الدنماركي "هننج لارسن" مصمم وزارة الخارجية في الرياض (1983م)، والذي يؤكد السلطاني تأثير هذا المبنى على عمارته الكوبنهاغنية، فعمارته تمتد على القناة، وعندما نصل إلى مبنى دار الأوبرا التي تقع في الطرف الآخر من القناة يظهر تعامد بصري مبهر مع ساحة القصور الملكية المثمنة الشكل في عمق المدينة التاريخية والتي تنتهي بمبنى الكنيسة الذي تم تنفيذه بعد القصور الأربعة والساحة بقرن تقريباً، صمم القصور والساحة وحتى الكنيسة المعماري الدنماركي "نيكولاي ايغتفدت" Nicolai Eigtvedt عام 1750 تقريباً، وانتقل الملك إليها عام 1848م عندما تنازل عن قصره للبرلمان.
من الواضح أن العاصمة الدنماركية تقدم نفسها كمكان للعيش وليس للسكن، وهذه العبارة في صيغتها العامة سمعتها من الأمير سلطان بن سلمان، فقد كان يقول دائماً يجب أن نعيش مدننا لا مجرد أن نسكنها، لكن كوبنهاغن تقدم دروساً خاصة في عيش المدينة والاستمتاع بمكونها العمراني والجمالي، والتعلم من تفاصيلها والعلاقات البصرية الهادئة والمدروسة التي تشكل قلبها التاريخي الذي يقابله مكون في غاية الحداثة على طرفي القناة. بقي أن أقول إنه أثناء جولتي في هذه المدينة مع الدكتور السلطاني استوقفني عند مبنى البورصة القديم الذي بني في القرن التاسع عشر، وقال: إنه يتعمد المشي بالقرب من هذا المبنى لأنه يستمتع بتفاصيل الآجر الذي يكسو واجهات المبنى، ولا غرو في ذلك وهو ابن الرافدين منبع عمارة الآجر تاريخياً، فقد كرر هذه الملاحظة عند مرورنا بالقرب من مبنى المكتبة المكية التاريخي، وقال لي: تأمل تفاصيل الآجر في هذا الجدار.. إنها عبقرية الإنسان التي بدأ يفقدها تدريجياً، وقد يأتي اليوم الذي لا يستطيع تحقيق إنجاز يضاهي هذه الأعمال.




http://www.alriyadh.com/2022512]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]