المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فِي أَدَبِيَّاتِ الرَّائِحَةِ



المراسل الإخباري
07-22-2023, 03:18
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png الرَّائِحَةُ أَثرٌ عامٌ يُدرَكُ -بقصدٍ أو غير قصد- عن طريق حاسة الشَّمِّ، وهي علامةٌ على المشموم ذات اتجاهين متناقضين: مرغوبٍ، وغير مرغوب، فأما المرغوب فهو كل رائحة طيبة أيّا كان مصدرها ونوعها، وأما غير المرغوب فهو كل رائحة مستقبحة أيا كانت درجة كراهتها؛ ولهذا فالروائح الطيبة تتفاوت وفق درجات ومستويات، فهناك المقبول، والطيب، والأطيب، وكذا الروائح الكريهة، منها المؤذي، والمنتن، والأنتن، وعلى أي حال، فإن الروائحَ -زينها وشينها، زكيّها وكريهها- تنبعث من مصدرين رئيسين: طبيعي، وغير طبيعي، فأما الطبيعي فهو كل رائحة ذات أصل لم يتدخّل بصنعه أو توجيهه الإنسان، كروائح الأشجار، والأزهار، والورود، والرياحين، وكل رائحة طبيعية انبعثت من تلقاء نفسها، وأما غير الطبيعي فهو الذي يكون للإنسان فيه أثر، أو توجيه، سواء أكان تدخله فيه كيميائياً، أم عفويّاً، والنوعان -الطبيعي وغير الطبيعي- كلاهما قد يُقْبَلانِ أو يُسْتَقبَحَانِ.
هذا وإن الروائح بوصفها علامة دالة على المشموم هي وسيلة اتصال بين اثنين، قد تجذبنا نحو المشموم بإقبالٍ متباين، وقد تُبعِدنا عنه بإبعاد مختلفٍ؛ ومن هنا تكشف الرائحة عن قوةٍ اتصال غير مرئية، قوةٍ تؤثر في المتلقي الذي يستقبل تلك الرائحة، ويتفاعل معها إيجاباً أو سلباً، ولأهمية هذا التأثير التواصلي فقد دلّت بعض الآيات القرآنية الكريمة على قيمة المشموم الطيب، كما في قوله تعالى: "يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ"، كما دلّت كثير من الأحاديث النبوية على قيمة الرائحة وأثرها في الآخر، فمن ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- وفيه: "ولَا شَمِمْتُ مِسْكَةً ولَا عَبِيرَةً أطْيَبَ رَائِحَةً مِن رَائِحَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ".
وللروائح فيزيائية عجيبة، فقد تعجبنا الروائح وتجذبنا حين تكون طيبة زكيّة تفوح بكل ما يبعث في النفس الانتشاء والطرب، وقد تطردنا وتصدّنا حين تكون كريهة مؤذية، والأمر الأكثر أهمية هو مدى تأثيرها في الآخر الذي يتلقاها؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "مَن أكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا"، وما ذلك إلا لما يشعر به متلقي الرائحة من ثقل؛ فالرائحة الكريهة تؤثر سلباً في الآخرين، وقد تضايقهم، أو تحرجهم، أو تؤذيهم، كما قد تكون سبباً في النظر إلى صاحبها نظرة مستقبحة.
إن من يتأمل حضور الروائح في التراث العربي يجدها وفيرة غزيرة، ولعل ذلك من أهمية الروائح وقيمتها لدى العرب، ولكم تغنّى السابقون الأوائل في أشعارهم بالروائح الطيبة، وممن تنبّه لذلك امرؤ القيس في معلقته، حيث يقول: "إذا التفتتْ نحوي تضوّع ريحها // نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفلِ"، ويقول في المعلقة ذاتها: "ويضحي فَتيتُ المسكِ فوق فراشها // نؤوم الضحى، لم تنتطق عن تفضّلِ"، وكل ذلك إنما يدل على سمو الرائحة الطيبة، ودنو الرائحة الكريهة، وهو ما يشير أيضاً إلى أن الروائحَ عنصرٌ مهم وفعّال في التأثير على الآخرين؛ فلكم جذبنا نحوهم حاملو الروائح الطيبة، ولكم طردنا عنهم حاملو الروائح غير الطيبة، ومن هنا ظلّت الرائحة وظيفة مهمة في الجذب والتشويق، أو الطرد والتفريق، ولا سيما في هذا العصر الذي نعيشه اليوم، الذي هو عصر العطور والروائح الفاخرة.




http://www.alriyadh.com/2023680]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]