المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جَهْــلُ مستوى الإدراك



المراسل الإخباري
10-12-2023, 03:11
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png
الغريب في شأن غفلة الإنسان عن جهالته أن المتعالم يُدركُ جهالته بالأمور الميسورة التي لو زاولها أياماً لعرفها، كالحرف اليدوية ونحوها، فلا يكاد يدعيها، بينما يكون مُولَعاً أشدَّ الولع بالتدخل في المعارف الصعبة التي تستغرق أوقات وجهود العباقرة كالعلوم الشرعية والحيوية والسياسية..
يمقت الإنسان بطبيعته الجهلَ، وهو أهلٌ لأن يُمقتَ؛ فإنه صفةُ ضعفٍ ودليلٌ على العجز عن استثمار ما جُبل عليه البشر من موهبة الفهم، والصلاحية للاستنتاج والموازنة واعتبار بعض الأمور ببعض، لكن من علم ما تجب عليه معرفته ولو بالتقليد فقد يُعذرُ إن جهل كثيراً من النظريات المحتاجة إلى التأمل، وقعدت همته عن طلب المعارف، لكنّ شرط تمهيد العذر له أن يعلم مستوى إدراكه ويقف عنده، ويُقبلُ على شأنه، ولا يُشوِّشُ على ذي شأنٍ في شأنه، بعكس من جهل أو تجاهل مستوى إدراكه، واقتحم غمار الكلام فيما ليس له به علم، فهو ملومٌ غير معذور؛ لأنه ترك ما عليه فعله من طلب المعرفة، وفَعَلَ ما عليه تركه من التعالم، فأحْجَمَ حيث يليق به الإقدام، وأقْدَمَ حيث يجب عليه الإحجام، وأيضاً لا يخلو من أن يكون قد وصل به عدم المبالاة إلى درجة غفلته عن جهالته، فيكون قد جَهِلَ بدهيّاً لا يسوغ جهل مثله، وإما أنه يُدركُ أنه جاهلٌ ويتظاهر بخلاف ذلك، فيكون مكابراً يُروِّجُ للباطل ويجعل الناس عرضةً للاغترار بتعالمه، ولي مع الجهل بمستوى الإدراك وقفات:
الأولى: لا يسعُ الإنسانَ أن يتكلم في أمرٍ ذي بال يُتلقَّى عنه ما قال فيه إلا إذا عَلِمَ أنه يتكلم بالمعرفة، ويتمتع بالبصيرة الكافية لنوع وأهمية ما يتكلم فيه، وهذه الأهلية لا يُثبتها الإنسان لنفسه وإنما تثبت بآلاتها ووسائلها، وهذا متعارفٌ عليه عند العلماء قديماً وحديثاً، قال الإمام مالك -رحمه الله-: "ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس حتى يُشاوَر فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني لموضِعٌ لذلك"، ومتى خالف هذا فقد قفا ما لا علم له به، وخالف قول الله تعالى: "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً"، وبمخالفة هذا التوجيه العظيم يكون كلام الإنسان ضاراً لا نافعاً، وما زلّت أقدام المبتدعة وأهل الأهواء والأحزاب ونحوهم ممن كان السبب في تفريق الصفوف وجلب الشرور إلا بإهمالهم لهذا الشرط، والتقحم فيما لا علم لهم به من غوامض المسائل العلمية، ودقائق الخطط السياسية، ودعوى المتبوع منهم لنفسه مستوى علميّاً وإرشاديّاً لا يراه أهل الشأن أهلاً له، واستتباعه سذَّجاً يرون له من ذلك ما هو بعيدٌ عنه، فيعقدون عليه الولاء والبراء، وكل هذه طوامُّ منشؤها تجاهل المستوى.
الثانية: الغريب في شأن غفلة الإنسان عن جهالته أن المتعالم يُدركُ جهالته بالأمور الميسورة التي لو زاولها أياماً لعرفها، كالحرف اليدوية ونحوها، فلا يكاد يدعيها، بينما يكون مُولَعاً أشدَّ الولع بالتدخل في المعارف الصعبة التي تستغرق أوقات وجهود العباقرة كالعلوم الشرعية والحيوية والسياسية، وقواعد إدارة البلدان ووسائل تسيير الشؤون المجتمعية، وهذه المجالات إنما يقوم بأعبائها من ينتدبُ لها من أهل الهمم العلية والعزائم القوية، وكلُّ واقفٍ في ثغرٍ منها يستشعر ثقل ما يتحمله الواقف في الثغر الآخر ولا يُشوِّشُ عليه في تفاصيل تخصصه، بل يجعله مرجعاً في جزئياتها إن احتاج إلى ذلك ليتكامل عملهما؛ فهو يدرك أهمية الجميع ويتصور قيمته تصوراً صحيحاً، ويحترمه احتراماً بالغاً؛ أما الجاهل الذي لا يعي تدني معارفه أو يعيها ويتجاهلها فتهون عنده هذه المهمات ويستسهل أن يتلاعب بالنظريات العلمية والقضايا العامة وأمور السياسة في سبيل تحقق مأربٍ ضيقٍ يصبو إليه، كظهوره بمظهر العارف الذي يُستمعُ إليه وتُعزى إليه الأقوال، أو لمجرد لفت النظر إليه على حد قولهم: "خالف تذكر".
الثالثة: من كان ينطلق من دافع حب الخير للناس فليكن أول ما ينفعهم به أن يكف عنهم شرَّ تعالمه، وأن يحاول أن لا يغشهم من نفسه بأن يظنوا به ما هو بعيدٌ عنه، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا خالف ذلك وانخرط فيما يجهل أبعاده ووجه الصواب فيه، جلب به إلى نفسه وإلى الآخرين ضرراً محققاً خالياً من أي نفعٍ ولو كان مرجوحاً، سواء كان ذلك الانخراط بقولٍ أو فعلٍ أو اعتناقِ فكرةٍ، وإذا اجتمعت كان تصرفه شراً مستطيراً، وبهذا تكون دعواه لحب الخير للناس مردودة لمناقضتها لتصرفه، وكذلك يجب عليه أن يعلم أن القضايا المتعلقة بالأمن والاستقرار محميّة عن الخوض فيها بالطريقة العشوائية، ولذلك آثارٌ وخيمةٌ لا يتجاهلها إلا باغ؛ ولهذا ذم الله المنافقين بتعاطي أخبار الأمن والخوف وعدم ردها إلى أهل الأمر، فقال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ».




http://www.alriyadh.com/2037510]إضغط (>[url) هنا لقراءة المزيد...[/url]