في صحبة منتجي الإبداع!

"دعاني جار كريم على شاي العصر مع ضيف دعاه لزيارته¡ وكان الضيف حاملاً لإجازة الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون بباريس¡ وهو من ذوي المناصب العليا في القضاء¡ وما كاد يدور بيننا الحديث حول الأدب والإبداع¡ حتى اتجه إلي بسؤال: من أي الكليات الجامعية يتخرج الأديب¿! جامعة الأزهر تخرج الأدباء¿ وقد كان الحديث حول توفيق الحكيم".
(د. زكي نجيب محمود)

في لقاء مع الشاعر محمد الماغوط¡ وكان أول لقاء كنت حضّرت له لكي يكون للنشر¡ ظل صامتا قرابة خمس دقائق وأمام كل منا فنجان من القهوة التي حَضَرتْ دون طلب¡ حيث اعتاد صاحب المكان أن يفعل ذلك مع الأديب الكبير لكونه يرى فيه أنه من وسائل جذب الزبائن من المعجبين والمهتمين بأعماله¡ ففاجأني الماغوط: (تكلم كي أراك)¡ وفي سرعة متناهية استدركت فقلت: كنت انتظر أن أسمع منك المفيد كإرهاصة ثم أبدأ بما جئتك من أجله¡ ولكن مادام الأمر أنك لم ترن بعد¡ وهذا مجازاً¡ وإلا لو لم تكن تراني لما طلبت الكلام¡ فضحك وكان له ما طلب¡ فدار الحديث عن كتبه¡ وعن أسبقيته في قصيدة النثر التي جاءت عفواً¡ وعن قراءاته¡ وكتبه¡ ودواوينه (حزن في ضوء القمر¡ والعصفور الأحدب¡ وغرفة بملايين الجدران¡ وسأخون وطني¡ وعن مجلة شعر وندوتها الخميسية "خميس شعر" وعن المصادفات في حياته¡ والموجب والسالب في المواقف تجاهه¡ ثم قال: "هلا نبلش نحكي للنشر" وكان الحديث شيقاً ومفيداً نشر في حينه¡ وقد كان صريحاً وجارياً كما النهر¡ ولم أرد أن أكون سببا في نبش مواضيع كانت بينه وبين نقاده وأصدقائه¡ ولكن سؤالا كان يلح علي وعلى المتابعين لهذه القامة يتمحور حول الفراق الذي حصل بينه وبين الفنان دريد لحام بعد أن قدما أعمالا كانت حديث العالم العربي ومنها مسرحية (ضيعة تشرين¡ وغربة¡ وكاسك يا وطن)¡ أجاب دون تكلف: لن أتعاون أو أشارك (غوار الطوشة) في أي عمل قادم¡ فالفراق قد تم ومعاودة اللقاء لن تكون¡ فألححت عليه أن يشرح السبب¡ قال بكل صراحة: أنا أكتب بصدق لأبدع وأصلح¡ وهو يمثل ليجمع ويكسب المصاري¡ ومن هنا كان الفراق¡ هو في طريق¡ وأنا في طريق¡ وفعلا لم يتراجع وبقي على القطيعة حتى رحل عن دنيانا مخلفاً عدداً من المؤلفات التي تتوالى طبعاتها¡ وهناك من وجدها فرصة ليصفِّي حساباته معه ويحاول التقليل من شأنه¡ ولكن أعماله تقف علامة برهان على إبداع خالد غير قابل للخدش أو الكسر.
تذكرت هذه الصورة وأنا أتصفح كتاب الزميل على سعيد (الحقيبة الجلدية/ بصحبة مفكرين وأدباء وفنانين) وهو كتاب انتقى فيه بعض الحوارات الثقافية مع أدباء¡ وفنانين¡ ومفكرين¡ حيث عمل المجهر وفحص واختار من الأحاديث الكثيرة التي عملها منذ التحاقه بالعمل في التحرير الثقافي¡ وبالرغم (من الغربلة والنخل) إلا أنه عندما جمع كتابه كرر العملية¡ ففرز وانتقى ومن ثم نشر كتابه عن دار أثر¡ فهو يفتتح كتابه بعبارة الكاتب العالمي ميلان كونديرا "قوة الصحافي لا تقوم على حقه في طرح السؤال¡ بل على حقه في المطالبة بالجواب"¡ وهذا درس يجب أن يعيه الصحفي عندما يريد حواراً مع عَلَم من أعلام الفكر والفن والأدب.
تضمن الكتاب ثلاثة عشر حواراً مع شخصيات أدبية وفنية لها مكانتها في الساحة الثقافية في العالم العربي¡ ولم تكن الأحاديث تقليدية¡ (سين وجيم فقط)¡ بل كانت تداهمها المداخلات ومحاولة التفسير والتحقق والتدقيق¡ فتكون الفائدة من الشمول بحيث تُعَرِّف المتلقي بالمتحدث في صورة واضحة تجعله أمام خياراته الخاصة¡ فيقرر ما يريد.
يصف على سعيد بداية تكتيكه في الحوار: "كنت قبل كل مرة أنهي كتاباً فكرياً أو أدبياً أثيراً¡ أجدني أرمي سنارة الخيال بعيداً وأتوهم أني أجري حديثاً مع المؤلف¡ أسأله وأساجله¡ أناقشه وأجادله في كتابه حد الإنهاك ثم أصمت وحيداً يائساً¡ لأن الحقيقة هي أن المؤلف في مكان آخر"¡ هذه الأمنية الخيالية التي صورها تحققت له بعد زمن قصير فقد تمكن من أن يخترق سحابة الأخيلة¡ ويزيحها بتاتاً¡ فقد صفت أجواؤه وكانت له الحقيقة في تَمَكُّنه من إجراء حوارات يخطط لها ويختار من يشاء لكي يقول له أنا هنا كما أنت¡ هات ما عندك على النحو الذي أريد¡ ومن الشخصيات التي تحدثت في الكتاب (باسم أحمد¡ البرت مانغويل¡ قاسم حداد¡ نصر حامد أبوزيد¡ أحلام مستغانمي¡ محمد أركون¡ سهيل زكار¡ غسان مسعود¡ خيري شلبي¡ وغيرهم).
كتب الحوارات الفكرية لها فن خاص¡ من حيث الإعداد والاختيار¡ وقد اطلعت على كتب تتماهى مع (الحقيبة) مثل كتاب (في صحبة لصوص النار) الذي أبدعت فيه الأديبة والشاعرة (جمانا حداد) من ناحية اختيارها لمبدعين عالميين¡ وإلياس فركوح في أكثر من كتاب¡ وقبل ذلك بعقود (عشرة أدباء يتحدثون) للأديب والصحافي فؤاد دوارة¡ و(حرقة الأسئلة) مع الشاعر عبداللطيف اللعبي¡ و(أسئلة الشعر) لمنير العكش¡ وما يشابه ذلك الكثير¡ ولكن يندر الجيد لكونه عملة صعبةº وجهاها السائل والمجيب¡ ومع هذا لا تخلو من إفادة حسب إمكانات الوجهين.

إضغط هنا لقراءة المزيد...