لغة الشاعر الواعظ

تحدّث الشاعر صلاح عبدالصبور في كتابه (حياتي في الشعر) عن مفهوم "شهوة إصلاح العالم"¡ ذكر أمراً مهماً وهو أن سبيل الشعراء للإصلاح "هي سبيل الانفعال والوجدان¡ وأن خطابهم يتجه إلى القلوب. وقد يكون أثرهم أكثر عمقاً إذ إن التعليم والنصح المجرد مقيتان إلى النفس¡ كما أن التعبير بالصورة أعمق أثراً من التعبير باللغة المجردة". كلام عبد الصبور كلام جميل ودقيق¡ لكن الملاحظ هو أن كثيراً من الشعراء يملكون الرغبة في الإصلاح لكنهم يسلكون الطريق الخطأ حين يستخدمون في نظمهم لغة مباشرة وتقريرية للتعبير عن مواضيع جميلة سواء قصدوا منها الإصلاح أو الإرشاد¡ أو أي غرض من أغراض الشعر.
تزداد رغبة الشعراء الشعبيين في الإصلاح من خلال قصائدهم في مناسبات معينة¡ لاسيما المناسبات الدينية كشهر رمضان المبارك وأيام الحج¡ وينظمون مئات القصائد التي يمر أغلبها مرور الكرام ومن دون ترك أي أثر في نفوس المتلقين¡ والسبب هو أن لغتها الباردة ليست لغة شعر ولا تختلف عن لغة الوعظ المباشر التي تشبّع بها الناس ولم تعد تؤثر فيهم¡ ونتذكر هنا موقف عبد الملك بن مروان حين أنشده الراعي النميري قوله:
أخليفةَ الرحمن إنّا معشر
حُنفاءُ نسجدُ بكرةً وأصيلا
عربٌ نرى لله في أموالنا
حــــقَّ الزكاة منزَّلاً تنزيلا
فقال عبدالملك: "ليس هذا شعراً¡ هذا شرح إسلام". رفض المتلقي يتجه هنا للطريقة التي استخدمها الشاعر لا إلى المضمون أو الموضوع¡ فالشاعر قد يتقاطع دوره مع دور الواعظ¡ لكن أكبر خطأ يرتكبه هو أن يتقمص دور الواعظ ويتحدث بلسانه. تقول الشاعرة والناقدة نازك الملائكة في خطابها للشاعر المبتدئ¡ موضحة الفرق بين دوره ودور الواعظ: لا بد أن تلاحظ "أن رسالتك لا تشبه رسالة الواعظ إطلاقاً¡ لأن هذا يدعو إلى الأخلاق دعوة صريحة بالترغيب والترهيب والبرهان والمثل وأما أنت فشاعر لا تعظ بل تغني¡ ولا تدعو إلى شيء وإنما تنفعل وتحيا وتتدفق¡ ووسيلتك هي الصور الأخاذة والرموز الموحية¡ واللغة الشفافة التي تكشف بالظلال والألوان أكثر مما تكشف بالكلمات¡ ومواعظك الموسيقية الملونة لا تؤدي مغزاها صريحاً وإنما تمنحه للقارئ المرهف الذي يلتقطها من إيحاء القصائد وجوها".
يوضح هذا الاقتباس حقيقة مهمة جداً¡ وهي أن الشاعر متى ما أدرك أن قيمة القصيدة ليست في موضوعها¡ أو رسالتها¡ بل في الأسلوب المناسب الذي يصاغ به ذلك الموضوع أو تلك الرسالة¡ فسوف ينجح إلى حد كبير في التأثير على الناس والقيام بدوره الإصلاحي تجاه مجتمعه وتجاه العالم من حوله.
أخيراً يقول عبد القادر متعب:
أبتسم لك في ممرات الحنين
وفـ الحنين اللي على بالي يمر
إنت آخر ضحكه بوجه السنين
جيتني عابر وروّحت بـ عُمر




إضغط هنا لقراءة المزيد...