المؤسسون أثرٌ باقٍ وذكرٌ ممتد
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png التاريخ فيه طائفتان¡ وليس ثمة ثالثة¡ طائفة تُؤسس وتبتدع وأخرى تنتفع وتستفيد¡ وإذا كانت الثانية لا تُحصر ولا تُحصى¡ فالأولى معروفة مذكورة محصورة¡ تبتدأ قائمتها برسل الله تعالى وأنبيائه¡ أولئك الذين علّموا الخير¡ ودلّوا عليه¡ وبقيت أممهم تحنّ إليهم وتفزع إلى تعاليمهم¡ وكم مِنْ الناس اليوم الذي يعرف موسى وعيسى ومحمداً «عليهم الصلاة والتسليم»..
في حياة البشر وتاريخهم مجموعة يسيرة نزْرٌ عددها¡ كان لها دور التأسيس والبناء¡ يسّر الله تعالى لها ذلك¡ وكلٌّ كما جاء في الحديث "مُيسّر لما خُلق له"¡ شقّت الطريق وعبّدته¡ ومضى على آثارها الناس¡ فوسّعوا ما ابتدعته وزادوا ما ابتدأته¡ فكانت سببا للخير وعونا عليه¡ وبقي الناس بعدها دهورا وقرونا يذكرونها بالخير¡ ويُشيرون إليها به¡ لم ينسوها وما كان لمعترف بالفضل أن ينساها¡ ولم يجهلوا جهودها وما كان لذي مروءة أن يجهلها.
أحق الناس بالذكر وأَوْلاهم بالإشادة هم المؤسسون الذين كتب الله على أيديهم حياة جديدة¡ انتقل الناس بها من حال إلى حالº فهم وضعوا اللبنة الأولى¡ وشادوا الصرح الأول¡ وأقبل الناس بعدهم يُتمّون ويُكملون¡ ولولا الله ثم ما بدؤوه من أصل ما كان لهذه الفروع¡ وإن كثرت بعدهم وتعاظمت¡ من قيمة وغناء¡ فلهم الفضل الأول¡ وهم أهل المعروف وأصله¡ وإليهم يُنسب كلّ ما جاء بعدهم¡ فهم آباؤه وأجداده وإن طال الزمان وتعاقبت الأجيال¡ وحسبهم سنّ السبيل وإشراع أبوابه.
إن المؤسسين هم بناة التاريخ وكَتبته على الحقيقة¡ وما للمؤلفين فيه والراصدين لأحداثه سوى الحكاية والرواية¡ وما كان للحاكي والراوي أن يبري قلمه¡ وينظم كلمته¡ ويُحدّث غيرهº لولا الله ثم تلك الجهود الشاقّة التي بذلها المؤسسون وناؤوا بحملها¡ ثمّ شاركتهم فيها أخلافهم وأتباعهم¡ فتلقّفها من بعدهم المؤرخ والراصد¡ فدوّنوها في القرطاس¡ ونقلوها من الحياة إلى الناس¡ فكان حديثهم من فعل غيرهم¡ وتأليفهم من تركة سواهم.
إن المؤسسين¡ وهم طائفة قليلة في خلق الله¡ يشبهون أصول الشجر¡ التي تنمو فروعها¡ وتسمق أغصانها¡ وتبقى هي الأصل الذي لا حياة للفروع دونه¡ ولا بقاء للأغصان بعد ذهابه¡ وتبدو للناظرين مع الزمن أكبر وأضخم وأصلب من تلك الفروع والأغصان التي ذهبت في الهواء وتلاعبت بها الرياح¡ وتبقى تلك الأغصان والفروع مرهونة بأصلها خارجة منه وقائمة بقيامه¡ يضرّها ما يُصيبه¡ ويُعطبها ما ينتقص منه.
التاريخ فيه طائفتان¡ وليس ثمة ثالثة¡ طائفة تُؤسس وتبتدع وأخرى تنتفع وتستفيد¡ وإذا كانت الثانية لا تُحصر ولا تُحصى¡ فالأولى معروفة مذكورة محصورة¡ تبتدأ قائمتها برسل الله تعالى وأنبيائه¡ أولئك الذين علّموا الخير¡ ودلّوا عليه¡ وبقيت أممهم تحنّ إليهم وتفزع إلى تعاليمهم¡ وكم مِنْ الناس اليوم الذي يعرف موسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والتسليم¡ يردد أقوالهم ويستضيء بسيرتهم ويتلو ما أُنزل إليهم!¡ وكم هي العلوم التي قامت على ما جاؤوا به وعلّموه!¡ إنهم تركوا بعدهم دوحات عظيمات¡ لا يرى مَنْ في أعلاها أصلها ومنبتها¡ ولكنه مع علوّه وتناهي بُعده ما زال ينتمي إليهم ويعترف بالفضل لهم ويلهج بذكرهم.
ويأتي بعدهم¡ وهو في الأثر بعيد عنهم¡ مؤسسو العلوم من أتباعهم¡ الذين وضعوا اللبنات الأولى¡ ونهجوا الطرائق المثلى¡ فصاروا بها أئمة لمن بعدهم¡ ينتمون إليهم ويقتدون بهم¡ ويتسمّون بأسمائهم¡ فرأينا في الفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي¡ وما زال المسلمون وهم في أصقاع المعمورة متفرقون¡ على هذا بعد أن فصل بينهم وبين أولئك الأئمة ما يقرب من اثني عشر قرنا¡ لم تَحُل السنون دون الانتماء إليهم والانتساب إلى ألقابهم¡ وليس بعد الانتساب إليهم شيء يكشف الأثر¡ ويُنبيك عن الدور¡ وهذا وذاك يريانك فضل المؤسسين وخطرهم¡ ويُظهران لك ما يجمل بذوي الفضل تجاههم.
والأمثلة في هذا السياق كثيرة¡ والشواهد عليه غفيرة¡ ومما يُذكر منها ويُختم به القول أئمتنا من النحويين¡ الذين اشتهرت أسماؤهم ولمعت في سماء اللغة ألقابهم¡ فتبعتهم الجماهير وافترقت بعدهم المذاهب¡ وصار لهم في كل صقع أتباع¡ يُؤلّفون الكتب ويشرحون المتون¡ ولم يتجاوزوا ما قرّره أوائلهم وساداتهم إلا بما لا حاجة إليه ولا ضرر في تركه¡ وانتهى المطاف بنا نحن المحدثين من النحويين¡ فَنِلْنا بما أصّلوه الألقاب الوظيفية¡ وأنجزنا بما دشّنوه الرسائل العلمية¡ وما كان لنا شأن قبلهم¡ ولا ظفِرنا بخير دونهم! هكذا هم المؤسسون¡ وهكذا هي آثارهم في الناس¡ تبقى فيهم شواهدها¡ وتنطق بينهم دلائلها¡ وكذلك هي حالنا اليوم مع الملك عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - مؤسس هذا الكيان¡ الذي مرّت بنا ذكرى توحيده ويومه الوطني¡ فكلّ ما نراه من تقدم وبناء¡ في حاضرنا اليوم ومستقبلنا غدا¡ راجعٌ بعد الله تعالى إليه¡ ومنسوب فضله بعد الله له¡ وحسبنا من سيرته وفضله ما انبنى الآن على جهوده¡ ومَثَل بين أيدينا بعده¡ وقد صدّق فعلُه ما حكى الراوي نقشَه على جدران قصره:
لسنا وإنْ أحسابُنا كرُمت ** يوما على الأحساب نتّكلُ
نبني كما كانت أوائلنا ** تبني ونفعلُ مثلما فعلوا..
http://www.alriyadh.com/1845740]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]