نظرات اقتصادية في الإسراف
http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png مملكتنا الحبيبة مملكة الإنسانية والرفاء والأمن والرخاء، أفاء الله عليها بنعم وفيرة وخيرات كثيرة، فهي بلاد واسعة الأرجاء مترامية الأطراف جمع شتاتها المتفرق وضمَّ كياناتها المتباعدة جلالة المغفور له المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه وأحسن مثواه - كما منَّ الله عليها بإنعام حفي وكرم سخي بأن جعلها راعية وسادنة لبيت الله العتيق ومسجد رسوله الأمين، ولكن بالرغم من مستويات الرقي الحضاري والتعليم المتقدم والمستوى الاقتصادي والتنمية الاجتماعية إلى جانب الأخذ بأسباب التقنيات المستجدة وأساليب الحياة الحديثة لا يُعدم أن تجد بعض العادات القديمة والتقاليد الموروثة يغلب عليها مظاهر الإسراف والهدر والبذخ والتبذير والتي لازالت مترسبة وراسخة في بعض مظاهرنا الحياتية وممارساتنا المجتمعية، وفي هذا المقال سنركز الحديث ليتناول مواضيع ثلاثة مهمة هي: الأطعمة والمياه والكهرباء، وهي أكثر الوجهات حساسية وتعاملاً واستخدامًا حيث تتبدَّى فيها كل تلك المظاهر غير السوية بشكل ظاهر ولافت، فإذا بدأنا بما له صلة بالضيافة والحفاوة والحفلات والولائم والمناسبات وما يتعلق بذلك من مظاهر الإسراف والبذخ والتبذير، فلا ننسى أن ربنا سبحانه وتعالى قد نهانا عنها أشد النهي وأبلغه بقوله عز من قائل: "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا" الإسراء: 27، حيث إن الأكل والشرب له حدود بيَّنها قرآننا الكريم في قوله تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" الأعراف: 31، كما أبان لنا كيف نكون ذوي حصافة وتعقُّل واعتدال بين الإسراف والتقتير في صرفنا وإنفاقنا بقوله عز وجل: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلك قَوَامًا" الفرقان: 67. إذن، بعد هذه التوجيهات والإشادات الربانية التي نحيا في ظلالها ونسير على هديها حتى نكون بحق أهل لما قاله فينا رب العزة والجلال في هذه الآية الكريمة: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه" آل عمران: 110. ولا يغرب عن بالبنا ما لهذه الظاهرة من تداعيات اقتصادية مادية جسيمة لتلك الأطعمة التي يكون مآلها ومصيرها حاويات النفاية، إذن لا بد من إيجاد جمعيات فعالة تحرص على جمع الفائض من تلك الأطعمة وتوزيعها على المستفيدين من أصحاب الظروف الاجتماعية الخاصة وذوي الدخل المحدود.
والآن لنعرج على ظاهرة أخرى من ظواهر الهدر والإسراف ألا وهو الماء، ونحن نعلم جميعا أن المملكة تبذل جهودًا مضنية في سبيل توفير الماء من خلال العديد من المصادر المتاحة، فهناك مياه الآبار وتحلية مياه البحر إلى جانب القيام بالبحث والتنقيب عن مصادر مياه أخرى وتنميتها في أي بقعة من المملكة مما يعتبر جهودًا شاقة ومرهقة وباهظة التكاليف، حيث إن المملكة كما هو معروف ليست بذات أنهار أو أمطار، وقد يزداد الأمر صعوبة وتعقيدًا في المناطق الجافة وشبه الجافة. ومن المعلوم أن النسبة الكبرى لاستهلاك المياه يتم داخل البيوت وأن معظمه يتم هدره وعدم الاستفادة منه، وهذا يتمثل في الاستخدام السيئ وغير المنظم للمياه، أولا من قبل أفراد الأسرة وثانيا استخدام مياه الشرب في ري الحدائق المنزلية وتنظيف البيوت وغسيل السيارات وملء أحواض السباحة إلى جانب الإهمال بترك المياه تسيل وتتسرب بلا فائدة أو جدوى.
وقد أشارت بعض الدراسات والأبحاث التي عملت بالمملكة إلى الاستنزاف المتزايد لهذه الثروة الوطنية غير المتجددة، كذلك بينت أن ارتفاع معدلات استهلاك المياه في المملكة يرجع إلى انعدام الوعي والشعور بالمسؤولية لدى المستهلكين، كما أن خدم المنازل يتحملن جزءًا كبيرًا من المسؤولية في هذا الجانب عند تنظيف الأواني مما يتحتم على ربة المنزل أن تحرص على التوعية والإشراف من أجل توفير الماء والحد من هدره وإضاعته، حيث إن ترشيد الاستهلاك يعني حسن استخدامه وتلافي عادات وسلوكيات خاطئة تؤدي لإهدار كميات كبيرة منه دون مبرر.
وبالنسبة للكهرباء فلها أيضا نفس الاعتبار من حيث الحث على المحافظة عليها وترشيدها واستخدامها الاستخدام الأمثل. فنحن نعرف أن الطاقة الكهربائية تنتج في محطات التوليد ثم ترسل عبر خطوط نقل وشبكات من تلك المحطات إلى المشتركين والمستهلكين من سكنيين وتجاريين وصناعيين وزراعيين ليستمتع الجميع بمزايا هذه الطاقة الكهربائية، وهذه الطاقة تختلف في خصائصها عن المياه من حيث عدم التمكن من خزنها كما نفعل في حالة المياه، ولذلك يجب علينا استهلاكها أيضا بنفس الصفة والسلوك الذي يجب أن نتمشى عليه في استهلاك المياه من حيث الترشيد وعدم الإهدار لأننا نعرف بالطبع الجهود المضنية التي تبذل والتكاليف الباهظة التي تنفق لإنتاج تلك الطاقة الحيوية وجعلها سهلة ميسرة في متناول الجميع، ومن المعروف أن الطلب على استهلاك الطاقة الكهربائية يزداد مع ازدياد درجات الحرارة (وخصوصا في مثل هذه الأيام التي نعيشها من أيام الصيف اللاهب) حيث تشتد الحرارة ويزداد استخدام المكيفات، وبالطبع فإن الإسراف في استخدام المكيفات والإنارة وتركها تعمل بلا مسوغ يمثل مظهرًا من مظاهر الإسراف والهدر والتبذير في استهلاك هذه الطاقة الذي يتم توفيرها بجهود كبيرة وأموال طائلة وتكاليف باهظة.
إذن، مع هذه النعم التي أنعم بها الرب تبارك وتعالى بها علينا حريٌّ بنا أن نحيا في ظلالها ونسير على هديها حتى نكون بحق أهلا للامتثال والالتزام بأوامر الله تبارك وتعالى. كما أن الأحاديث النبوية الشريفة لم تغفل هذا الجانب المهم في حياة المسلم بل حفلت بالكثير في النهي عن البذخ والإسراف والتبذير فيما لا يجدي ولا ينفع وتحثنا على تبني معاني الاقتصاد والاعتدال والترشيد، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجه: "كلُوا واشربوا والبسوا في غيرِ مخيلةٍ ولا سرفٍ"، كذلك عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار (رواه ابن ماجه)، ما أعظم هذا الحديث النبوي الشريف الذي وضع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة تعتبر من أهم قواعد الاقتصاد الذي يعتبر الخط الفاصل بين الإسراف والبذخ أو الشح والبخل فقد قال الله تعالى: "وَكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" البقرة: 143، والمقصود هنا هو الاعتدال والتوسط في استخدام الشيء والإفادة منه كما هو أيضا واضح من آياته الكريمة، فالاقتصاد قوامه الاعتدال والحكمة والتعقُّل في الصرف والإنفاق والاستخدام.
جامعة الملك سعود
http://www.alriyadh.com/2022788]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]