الفكر والجمال

http://www.alriyadh.com/theme2/imgs/404.png تعبّر الأفكار من وجهة نظر أصحابها، والمؤمنين بها عن حقائق ثابتة ومطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وأدوات هذه الحقائق التي تشكّل مادة الفكر هي المفاهيم التي تسهم في جعلها متحقّقة على المستوى العمليّ، بعد أن كانت نظريّة تميل إلى التجريد ومخاطبة العقل والذهن.
أمّا مسألة الحقيقة فإنّها تستعصي على التحديد، فهي علاوة على نسبيّتها، تقتربُ في كثير من الأحيان، من وصف غاستون باشلار المعبّر عن مأسويّتها «الحقيقيّة» في كونها: ما يُدرك في جوّ من الندم الفكريّ، إن جرى التحرّر من ماضي الأخطاء، أو بمعنى آخر، ما يكتشف زيفه بعد فوات الأوان إنْ جرى الإقبال عليه من دون أحكام مسبقة تقيّد الفكر والنظر.
بخلاف ذلك تسلك الفنون، وعصبها الأساس المتمثّل بالجماليّات دروبًا مختلفة، لأنّها تفصح عن مضامين إنسانيّة، ومشاعر يختلط فيها الذوق بالعاطفة، لا تلغي الفكر والحقيقة، لكنها تنظر إليهما عبر الأفق الإنسانيّ الحيّ، وهي بهذا تتعدّد فيهما الأحكام، وتختلف فيهما الرؤى بحسب اعتبارات زمانيّة ومكانيّة متنوّعة، فالفكر من مكوّناتها الذي قد يكون آنيًّا قابلًا للتغيير أو التجدّد، وهذا لا يقلّل من قيمتها الفنيّة والفكريّة، بل ربّما أشار إلى أهميتها، فالجماليّات فكرٌ متغيّر وأسلوب مبتكر تسلكه الأفكار بغية الوصول إلى عقل الآخر، ومشاعره التي لا يمكن تحييدها.
إنّ التاريخ شاهد على أفكارٍ عظيمةٍ دُفنت وأمست أثرًا بعد عين، لم يكن ينقصها سوى لمسة جماليّة تكتب لها الخلود، وممّا يمثّل ذلك بعض الأعمال الفنيّة المسرحيّة والدراميّة المتضمّنة أفكارًا عظيمة، لا تلبث أن تندثر بعد عرضها، مع ما تحتويه من قيم فكريّة، وحقائق بيّنة، لكنها قُدمت بأسلوب يخلو من الجماليات التي تحبّبها للنفوس، وتثبّتها في العقول، وفي هذا السياق يؤكّد فلاسفة جمالٍ على أنّ الموضوع الجماليّ: وإنْ كان يستمد وجوده من العمل الفنيّ، ويتضح معناه عبر الرجوع إليه، فإنّ العمل الفنيّ في -مقابل ذلك- يجد حقيقته في الموضوع الجمالي. وهو ما يعبّر عن وظيفة العناصر الجماليّة في إدراك الغاية الفنيّة والفكريّة في الأعمال الفنية والفكريّة.
معيار الحقيقة يتمثّل بقوة تأثيرها في الحياة وفعلها وانفعالها بتفاصيلها، لا في تجريديّتها وتعاليها عن الحياة، فالفنّ كما يصفه الفيلسوف الألماني هيدغر: تغيير وتحويل في صورة الأشياء، وهو لهذا أكثر تحقيقًا للحياة من الحقيقة التي ليست سوى تحنيطٍ لما يظهر؛ لذلك فكلّ فكر يستند إلى حقائق تغني الحياة وتعمّق الإحساس بها، يُكتب له الاستمرار والبقاء والتجدّد أيضًا.
إنّ الفكر وحقائقه، والفنّ وجماليّاته متداخلان، وكلّ اختلال في نسبة حضورهما في النظريّة أو العمل سيعيق استمرارهما، ووجودهما بالمجمل؛ إذ لا يمكن لحقيقة لا تستمدّ شيئًا من وجودها من الفن والجمال أن تبلغ غايتها الحياتيّة التي يشكّل الإبداع ذروتها ومعيارها، فالفكر في الفنّ حالة تجدّد لا تتوقّف، وانقطاع تجدّده يعني انقطاع صلته بالحياة، وضموره وتلاشيه، وشريان هذا التجدّد يبرز في الجمال الذي يبهر المتلقي، ويجلي الحقائق، ويمنحها الديمومة والبقاء بما تحمله، وما يتمظهر منها من شخصيات فارقة، وأفكار بانية، وأعمال خالدة.




http://www.alriyadh.com/2057403]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]