إن كان للروم العرش¡ وللفرس الإيوان¡ فللعرب المنبر..
نصب مهيب جليل مشرئب في الوجدان العربي¡ فهناك تعقد الرايات¡ تتلى الخطب¡ وتؤخذ البيعات¡ ويهدر بالقصيد.
ومن فوق المنبر تمرر الخرائط الذهنية المعلقة بأصبعي الرحمن فتتقلب القلوب¡ ومشيئة كن فيكون حتى تستدير الجمعة.
المنبر هو المزولة الشمسية التي تضبط إيقاع الجماعة¡ تداخلَ مع فطرتهم¡ فخضعتْ له النفوس¡ وتعلقتْ به الأبصار¡ وأرهف السمع له¡ لذا ليس لمن يمتطيه حيز للمغامرة¡ والتجريب¡ وتقليب الرأي على وجوهه.
المنبر لدى العرب يطفو فوق غمامة ضوء مقدس¡ وعندما وقف به الحجاج عند ولايته للعراق¡ صمت لوهلة¡ حتى ظنه أهل العراق بأنه قد لجم عليه¡ فأخذوا يحصبونه ويتهكمون عليه¡ قبل أن يميط لثامه¡ ويهدر بخطبته الشهيرة¡ فدانت له العراق بين سطورها الملتهبة¡ بعد أن عجموا عود فارس المنبر الحجاج¡ فوجدوه حنظلاً مراً.
وأي فارس دون ذلك سيلتهمه المنبر.. أو يزجره المنصتون.. فالمستمعون على الغالب لا يمتلكون كثيراً من بشاشة أو كياسة¡ فكما قذفوا الحجاج بحصى المسجد¡ قاطعوا الشاعر أبا تمام (وهو من هو بين شعراء زمانه) فبينما هو يلقي قصيدته بين يدي ابن الخليفة المعتصم¡ وقال في أحد الأبيات مادحاً
إقدام عمرو في سماحة حاتم.. في حلم أحنف في ذكاء إياس
فانبرى الجلاس له مقاطعين:
إن ابن الخليفة فوق ما وصفت¡ كيف تشبهه بأجلاف العرب¿
فرد عليهم أبو تمام ببديهة عجيبة حجبت سهامهم عنه¡ عبر بيتين ارتجلهما لساعته:
لاتنكروا ضربي له من دونه.. مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل بنوره.. مثلاً من المشكاة والنبراس
فهل كل الشعراء أبو تمام¿ وهل كل الخطباء.. الحجاج¿
ليس بالضرورة..
لذا المنبر حصان عصي على العسف¡ لن يسوسه إلا فارس قد اكتهلت المفردات على شفتيه لكثرة تردادها¡ في الليل مكر وفي النهار مفر¡ وبين هذا وذاك يهزج فتستجيب القلوب لوقعه¡ بعد أن حذق إيقاع الأرض¡ وسر المنبر.
ومن هنا كانت المحاسبة الجماهيرية القاسية للشاعر الشاب الذي ألقى قصيدته بين يدي الملك (حفظه الله) في المنطقة الشرقية.
ردة الفعل المستفيضة كسيل العرم.. تأخذنا إلى أن ذائقة المنبر لم توقع عقد مخالصة مع قوانين القصيدة الكلاسيكية.. قصيدة الفروسية¡ الإيقاع الصاهل المرتفع¡ الصور التي لا تسرف في الصنعة (فالصور المركبة المتكلفة تترك لدكاكين الوراقين) بينما المنبر¡ بحاجة إلى تلك الومضات الشعرية الخاطفة المكثفة¡ كما قال الأعشىº كأنما البرق في حافاتها الشُّعل
المنبر حصان بصهيل وحمحمة¡ يشعل شهقات الشغف¡ ولا ينتظر أطوار التأمل.. ما بين الرنين.. والترنيم.. والقلقة.. صعب مرقاه
وما لم تكن عضلات فارسه قد نضجت واشتد عوده.. فإنه ينثني ويقصف.. ويلتهمه المنبر.




إضغط هنا لقراءة المزيد...