في عام 2005 كان محور لقاء الحوار الوطني في أبها (نحن والآخر)¡ وأذكر أن في ذلك اللقاء¡ حبرت الكثير من الأوراق¡ وفاضت المدونات¡ وازدحم فضاء اللقاء بكم وافر من التأصيل الشرعي لخطاب التعايش والتسامح¡ والاستشهاد بآيات¡ والرجوع لأحاديث¡ وإبراز الوثيقة العمرية التي نظمت علاقة المسلمين الأوائل مع الآخر/ المختلف¡ بحيث شعرت آنذاك بأننا وجدنا ترياقا ناجعا لداء التطرف.
وكان المجتمع وقتها ما برح يعاني من صدمة المواجهة العسكرية المباشرة مع فكر التطرف¡ حيث التفجيرات¡ وتفخيخ الأجساد¡ وقطع رؤوس الأجانب ووضعها في الثلاجة... و و و..
والفجيعة جعلت الكثير من المشاركين الشرعيين آنذاك¡ يشمرون عن سواعدهم¡ ويستنطقون المكون الإنساني في تاريخنا وإرثنا الفكري¡ ويستحضرون إلى واجهة النقاش مفاهيم التعايش والتسامح وقبول الآخر بجميع أطيافه.
ولكن منذ ذلك الوقت إلى الآن¡ ظل مناخ التسامح والتعايش فعلا نخبويا قصيا بعيدا¡ بينما المحرك الرئيس على الساحة هو أمر مختلف تماما.
هذا ما تبدى لي بوضوح بعد عدة مشاركات في لقاءات الحوار الوطني¡ كان آخرها مشاركتي في ندوة التعايش المجتمعي التي نظمها مركز الحوار الوطني الأسبوع الماضي.
حيث كان من ضمن الندوات ندوة تأصيل شرعي لمفهوم التعايش¡ تميز فيه طرح الشيخ صالح المغامسي¡ عندما جعل المروءة وحسن الخلق وقبول المختلف قيمة راسخة وخصلة أصيلة لدى العرب¡ تجاه جميع مكونات المجتمع المكي آنذاك¡ فلا تستثني أحدا¡ رغم الاختلاف العقدي.
ولكن يبدو أن هذا النوع من الطرح لا يمرر إلا وفق أضيق الحدود¡ وضمن ظروف ترتبط بالزمان والمكان¡ الذي قد يضيق في بعض الأحيان¡ فلا يتجاوز مبنى مركز الحوار الوطني على أكبر الاحتمالات.
لأن المهيمن الحقيقي¡ والمتسيد المستبد في الساحة هو فكر مخالف تماما¡ والآن وبعد أحد عشر عاما من لقاء الحوار الوطني (نحن والآخر) ما برحت عقيدة الولاء والبراء هي التي تمسك بخيوط المشهد الفكري بقوة¡ لاسيما في الدوائر الفكرية التي تتسع فتتداخل مع الشعبوي.
وجميعنا نعرف أن عقيدة الولاء والبراء¡ تتقاطع تماما مع فكرة الآخر.
فهذه هي القاعدة التي تتحكم بالأفكار والممارسات والمعاملات¡ فقد تبرز لنا فجأة من فوق منابر الجمع بشكل موارب بالدعاء على الأمم الأخرى¡ ونجدها حاضرة في مناهج التعليم بكثافة¡ وصولا إلى بعض المعاملات الإدارية التي تحصر التبرعات الخيرية¡ أو عقود الاستقدام¡ في أهل ملة بعينها.
وعقيدة الولاء والبراء مترسنة بكم وافر من الآراء والاجتهادات الفقهية¡ التي تجعل الكثير من الفقهاء يعرض عن مناقشتها أو تفكيكها أو عرضها على الأصول الكبرى للشريعة¡ أو مقاربتها عبر مدارس التجديد الفقهي¡ التي تتعامل مع النص الديني بأدوات تاريخية.
غالبية من يتحدث على المستوى الشرعي في الحوار الوطني¡ يسهب في الحديث عن التسامح والتعايش وفقه الذمة فقط¡ يمر بالحمى ويدور حولها¡ دون أن يشير بصريح العبارة إلى دور عقيدة الولاء والبراء الجذري والجوهري في تشكيل علاقتنا مع الآخر.
وما لم تفتح الصناديق المغلقة¡ وتسلط الأضواء على الظلال المتوارية¡ فسنظل نعيد ونزيد في ندوات الحوار الوطني¡ لنحبر الكلام الصقيل الجميل الملمع.. بينما ما يحدث خارج القاعات المعقمة¡ من عنف وإقصاء وتصنيف.. أمر مخالف تماما.




إضغط هنا لقراءة المزيد...