الإدارة على اختلاف مهماتها.. والمنظمات على اختلاف برامجها ومشروعاتها¡ التي لا تعترف بحق الاختلاف¡ ولا تضبط عناصره داخلها¡ لتحوله إلى عملية منتجة تحول دون ارتكاب الأخطاء.. إنما تعاند هذه الآلية التي وضعها الخالق جزءاً وشرطاً من شروط الخيرية..
كان ومازال وسيظل الصراع بين الحق والباطل¡ بين الفضيلة والرذيلة¡ بين العدل والظلم.. جزءاً لا يتجزأ من مسار البشرية على هذه الارض¡ منذ خلقها الله وإلى أن يرثها.. بل أنه جعل هذا الصراع معيارا لفضيلة الحياة¡ واستحقاق الترقي¡ وشرطا ثابتا من شروط الإعمار والخيرية في البشرية قاطبة. "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ".
ولم تكن المدافعة سوى جزء من طبيعة الصراع بين الخير والشر.. ففساد الأرض رهن باختلال ميزان هذه المدافعة.. التي ما إن تحتبس¡ حتى تختل معادلة الحياة على هذه الأرض.. وما إن تنفجر بعد احتباس قد يطول¡ مع ما يستتبعه من عوامل التدهور والانحطاط والذبول¡ فلن يكون انفجارها مؤذنا بانفراجة.. فكثيرا ما يكون فوضى وتخبطا¡ وضياعا جديدا.
ليس أقسى على المظلوم من احتباس صوته¡ حتى ليعجز أن يقول لمن ظلمه يا ظالم. وليس أقسى على أمة من احتباس صوت الانتصار للمظلوم خشية من الظالم.. وليس ثمة باب أوسع للفساد من باب الخوف من التصدي له¡ والاكتفاء بالانكفاء على الذات رهبا وطمعا.. رهبة من تبعات المساءلة¡ وطمعا في مكتسبات الأدوات الرخيصة التي تهون¡ او تحجب¡ او تتجاهل ما ينبغي التصدي له¡ والوقوف منه موقف المتسائل¡ اذا لم يكن موقف المحتج والرافض.
وقس على ذلك الادارة على اختلاف مهماتها.. والمنظمات على اختلاف برامجها ومشروعاتها¡ التي لا تعترف بحق الاختلاف¡ ولا تضبط عناصره داخلها¡ لتحوله إلى عملية منتجة تحول دون ارتكاب الاخطاء¡ أو تقلل من احتمالاتها قدر المستطاع¡ والتي لا ترى في كل صوت مختلف سوى نشاز يجب التصدي له.. أو لا تريد الاعتراف بأن ثمة اخطاء وربما خطايا تستلزم المراجعات.. إنما تعاند هذه الآلية التي وضعها الخالق جزءا وشرطا من شروط الخيرية¡ ناهيك أنها المقوم الأهم لحماية الكيانات من تبعات التفرد بالقرار¡ وعواقبه وشروره..
وفي كل مراحل التاريخ سنرى أن أكبر الأخطار واعظم الحوادث¡ وأوخم النتائج.. لم تكن لولا فقدان¡ او تجاهل¡ أو مقاومة لطبيعة الصراع والمدافعة.
وليست المدافعة عناوين احتجاج¡ او صوتاً مرتفعاً في لجة الرفض والتحذير.. إنما هي أدوات تمكن من خلالها التصدي لخلل¡ او مشروع قد تدفع الأمة ثمنه¡ وترهقها تبعاته..
ولقد رأينا قبل عدة أسابيع¡ كيف تصدى القضاء في الولايات المتحدة الأميركية لقرار الرئيس الذي منع بموجبه رعايا سبع دول من دخول بلاده. لم يكن صوت الشارع كافيا¡ وإن كان مؤشراً مهماً بأن ثمة ما يستوجب التوقف والحذر.. لتكون الأداة "القضاء" فاصلا بين قرار رئيس أكبر دولة في العالم¡ وبين مواطنين او مقيمين في الولايات المتحدة الاميركية من رعايا تلك الدول او من غيرهم..
ولم يكن لذلك التصدي القضائي ان يكون ذا أثر كبير¡ لولا فصل حاسم بين السلطة التنفيذية والقضائية¡ مما يجعل الرئيس مهما علا شأنه¡ وامتدت سلطاته¡ يخضع لتلك السلطة¡ وهو يحاول ان يستعيد توازنه من خلال مراجعة ذلك القرار¡ او البحث عن وسائل اخرى تحقق بعض أهدافه¡ دون الإصرار على تنفيذ ذلك القرار.. ولو تمكن لفعل.
إنها المدافعة بين البشر مهما علت¡ أو تواضعت مراكزهم من أجل ألا تفسد الحياة.. انها الطبيعة السلمية في الصراع حول رؤى وبرامج ما ان تصل لصناعة القرار¡ حتى تبدأ عملية حيوية داخل تلك المجتمعات¡ التي أدركت كيف تجعل من توازن السلطات¡ حماية لها من الوقوع في شرك الانفراد بالقرار¡ وهي تدرك ان هذا ليس عامل ضعف في بنية الدولة والحكومات¡ قدر ما هو جزء من طبيعة المدافعة.. وقد يبدو لقصير النظر انها تحديات تنهش في قوة الدولة.. بينما هي تراكم خبرات¡ ومراجعات¡ وتؤسس لمفاهيم¡ وتعمق عوامل التوازن والاستقرار الايجابي.. وتحمي الكيانات من الانقسام¡ والتشرذم¡ وتنمي الحس العام بقيمة وأهمية هذا النوع من المدافعة السلمية.
ومن يرى حال هذا المنطقة العربية¡ وما آلت إليه أوضاعها ومجتمعاتها والمخاوف الكبرى حول مستقبلها.. لن يغيب عنه حتما بأن ثمة معادلة مفقودة¡ لم تضع في الحسبان أن السياسة توافقات¡ وأن التفرد والاستحواذ على القرار¡ لا يعني سوى التفرد بتقرير مستقبل أمة قد يقودها إلى المجهول.. وأن ضعف بنية المؤسسات القضائية والحقوقية¡ وتهاوي أدوارها أمام السلطة المطلقة¡ إنما كان من العوامل التي أوهنت البناء¡ ومكنت للاستبداد¡ وراكمت عوامل إنتاج الضعف والاضطراب.
ولا يمكن للتدافع من أجل الخيرية¡ والحق¡ ورد الظلم¡ ودفع الفساد¡ وحماية الكيانات والمجتمعات¡ إلا ان تكون طرفي المعادلة في حالة من التوازن¡ فلا يطغى احدهما على الآخر.. وها نحن نرى ان هذه المعادلة التي توصلت إليها الامم والشعوب في إدارة مجتمعاتها بعد صراع طويل¡ تؤتي ثمارها في استقرار¡ ونمو¡ وفاعلية¡ وحيوية تلك المجتمعات.




إضغط هنا لقراءة المزيد...