عزمني صديق من أصدقاء المرحلة الثانوية¡ قضيت معه سهرة ممتعة¡ كان بمثابة المعلم¡ يكبرني بعشر سنوات تقريبا. في تلك الأيام لا قيمة كبرى لفوارق العمر. سترى في المتوسطة طالباً عمره ثلاث عشرة سنة¡ وإلى جواره على نفس الماصة شاب عمره إحدى وعشرين سنة. خلطة فرضها التزاحم على التعلم.
كان صاحبي ناصريا متشددا¡ يؤمن بالوحدة والاشتراكية وتحرير فلسطين السليبة. سهرنا بمرح لكيلا يحضر ذلك الزمان بيننا¡ بذلنا جهودا لتفادي حكايات السبعينيات والأحلام المندثرة¡ تحدثنا عن التقدم والتكنولوجيا والإنسان¡ لا يريد أي منا المساس بإيمان الآخر¡ ولكني وقعت بالصدفة في المحظور¡ انتقدت عبدالناصر وأغلظت له النقد. احتفظ بهدوئه ولكنه لم يقوَ على الصمت فقال يا أخي يكفي عبدالناصر أن مات دون أن يترك في حسابه البنكي جنيها واحدا¡ لم يترك لذريته سوى شقة صغيرة متواضعة.
كم أسعدني هذا الدفاع¡ انحصرت إنجازات جمال عبدالناصر في نزاهته¡ لم أشأ أن أقول له ذلك.
مصدر سعادتي أن الرجل وصل إلى قناعة أن عبدالناصر لم يقدم شيئا كبيرا يتفق مع اسمه الكبير¡ لكن الإنسان لا يتخلى بسهولة عن إيماناته وقناعاته التي تبناها ودافع عنها وروّج لها في شبابه¡ لا بد من جسر بين الماضي والحاضر يحفظ الكرامة ولواعج الحنين¡ الشباب والحماسة والتطلعات لا يمكن أن يتنازل عنها صاحبها مهما اشتدت مطارق العقل والواقع والحقيقة. الانتقال يحتاج إلى وهم يشبك المرحلتين معا دون القفز المفاجئ الذي يعطي الإنسان الإحساس أنه عاش فترة شبابه مغفلا. لا أحد يريد أن يقف أمام محكمة التحولات شاهدا على جهله أو غبائه.
تقرؤون هذه الأيام عبارات كثيرة تشتم الليبراليين والدعاة على حد سواء وفي نفس الجملة تتهم الطرفين بالتطرف. (الله يفكنا منكم كلكم). كم يسعدني أن أقرأ هؤلاء. مثلهم كمثل صاحبي الناصري. ليس من السلامة العقلية أن يتخلى الإنسان هكذا عن معتقدات كان يراها يوما جسر الخلاص الأبدي من محن الحياة الزائلة. شتم الليبراليين بصحبة الدعاة معبر لا بد من احتيازه¡ رسالة براءة ووداع لهؤلاء الذي أعطوه وعودا بالجنة وتكالبوا على متاع الدنيا التي حرموها عليه. يؤكد على شتم الليبراليين اتقاء من سيل اللعنات التي سمعها تصب على هذه الفئة الطارئة. لا يريد أن يكون من الليبراليين مبكرا حتى لا تصيبه لعنة طائشة. يبرأ من هؤلاء ومن هؤلاء. من يريد تبديل ملابسه بالكامل سيمر حتما بلحظة عري. هذه اللحظة هي اللحظة التي تقع بين أفكار الليبراليين والدعاة والذين حولوا الدين الحنيف إلى سياسة ومجد شخصي. رغم الشتائم سيرحب دعاة الحياة بالعائدين إليها.




إضغط هنا لقراءة المزيد...