لا يخلو العمل من أن يكون ظاهراً أو خبيئة بين العبد وربه، ومن الأعمال ما محله القلب ولم يشرع إظهاره، ومنها ما لا يؤدى بصفته الشرعية إلا إذا أظهر، ومنها ما فيه تفصيل، فاللائق أن يعرف الإنسان طبيعةَ كل عمل وما المطلوب فيه من إظهار أو إخفاء..
ينبغي أن يبذل الإنسان في هذه الحياة قصارى جهده في الأعمال الصالحة، فتلك فرصته التي لا تعوض، ولا يدري متى يُحرم من تلك الفرصة، ولا يخلو العمل من أن يكون ظاهراً أو خبيئة بين العبد وربه، ومن الأعمال ما محله القلب ولم يشرع إظهاره، ومنها ما لا يؤدى بصفته الشرعية إلا إذا أظهر، ومنها ما فيه تفصيل، فاللائق أن يعرف الإنسان طبيعةَ كل عمل وما المطلوب فيه من إظهار أو إخفاء، فيؤديه على حسب المطلوب؛ ليكون سعيه مشكوراً، وفي الوقفات الآتية أتحدث عن أقسام العمل فيما يتعلق بالظهور والاستتار مقسِّماً الأعمالَ في هذا الصدد إلى أصناف.
أولاً: عمل قلبي بحتٌ يتعبد الناس بأدائه بضمائرهم، ولا يشرع فيه الإظهار، وذلك كالنية؛ فإن محلها القلب، ويغني عقدها بالقلب عن التلفظ بها، إلا ما ورد به الدليل، وهذه النقطة من أهم ما يستصحب الإنسان الاعتناء به؛ لمركزية النية في منظومة العمل، فإن أعمال القُرب التعبديةَ تتوقف صحتها وبراءة الذمة منها على النية، ومن الأعمال المعقولة المعنى ما لا تتوقف براءة الذمة منها على النية كردِّ الودائع والنفقة على من يستوجبها، لكن تشترط النية للإثابة عليها (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فإذا كانت النية بهذه المحورية وجب التنبُّه إلى أنه لا عبرة منها إلا بما انطوى عليه القلب.
ثانياً: شعائر ظاهرة لا يمكن أن تؤدى على الصفة المشروعة إلا إذا ظهرت ماثلةً للعيان، وذلك كأداء صلاة الجماعة للصلوات المكتوبة، وكذلك كل عبادة شرع لها الاجتماع كالعيدين والكسوف، فهذه شعائر جماعية لا مناص للعامل بها من أن يراه غيره من المصلين أثناء أداء الصلاة؛ ولهذا لم تَخْفَ عن الصحابة رضي الله عنهم هويةُ المتخلفين عن الجماعة حتى قال بعضهم: (وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومٌ نِفَاقُهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ)، نعم يشترط لكونها عبادة أن يُنوَى بها وجه الله تعالى، فالشأن فيما شرع للظهور أن يظهر مع الإخلاص، قال بعض أهل العلم: «والفرائض أسست لإشادة الدين، وإظهار شعائر الإسلام، فهي جديرة بأن تقام علي رؤوس الأشهاد»، ومن العبادات التي روحها الظهور تعليم العلم وتصنيفه، فإنما ينتفع الناس بعلم العالم عند بثه بينهم وتمكينهم منه بالتدريس وإتاحة الاستفادة من مصنفاته.
ثالثاً: عبادات يشرع فيها الظهور حيناً، ويشرع فيها الاستتار آونةً أخرى، فيتحرَّى الإنسانُ أن يكون إظهاره لها أو سترها جارياً على الوجه اللائق بها، ومن تلك العبادات الصدقات فعنها يقول الله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فمُدِحَ الإبداءُ أولاً، وأردف ذلك بذكر أن إخفاءها وإيتاءَها الفقراءَ خير، وهذا على ما يراه بعض العلماء من أن المراد بالصدقات هنا الزكوات الواجبة هاهنا، قال بعض المفسرين: «وكان كتمانه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل، لأن المسلمين إذ ذاك لم تكن تسبق إليهم ظِنَّةٌ في منع الواجب، فأما اليوم والناس يسيئون الظن فإظهار الزكاة أحسن»، ومن العبادات التي يشرع مراعاة الأحوال في إسرارها وإظهارها إنكار المنكر، فلكل مقام فيه فقهه الخاص به، ويختلف ذلك باختلاف الظروف والأحوال والأشخاص.
رابعاً: عبادات يستحب فيها الإخفاء كنوافل العبادات؛ لأن إخفاءها أقرب إلى البعد عن الرياء، وقد جعلت صلاة النافلة في البيوت أفضل، وكان صاحب صدقة السر من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ ولهذا كان لبعض الصحابة وبعض السلف خبايا أعمال بينهم وبين ربهم لا يطلعون عليها أحداً إلا إذا سئل أحدهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفَّ نعليك بين يدي في الجنة» قال: ما عملت عملا أرجى عندي: أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي»، أخرجه البخاري، وقال ابن المبارك: «رأيت مالكاً فرأيته من الخاشعين وإنما رفعه الله بسريرة بينه وبينه، وذلك أني كثيراً ما كنت أسمعه يقول من أحب أن يفتح له فرجة في قلبه وينجو من غمرات الموت وأهوال يوم القيامة فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية».




http://www.alriyadh.com/1892612]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]