إن الارتقاء بالإعلام للمستويات العالمية يتطلب وضع خطة استراتيجية يعدها أبناء الوطن، ويعمل على تنفيذها المحترفون مهنياً والمؤهلون فكرياً، ويقوم أساسها على الالتزام بقيم ومبادئ المجتمع، ويضبط عملها منهج الدولة الذي تأسست عليه..
«تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة، وبأنظمة الدولة، وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها، ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة، أو الانقسام، أو يمس بأمن الدولة وعلاقاتها العامة، أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه، وتبين الأنظمة كيفية ذلك.» هذا هو النص الحرفي لما تضمنته المادة التاسعة والثلاثون من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية الصادر في شعبان 1412هـ، مارس 1992م. قد تكون ثلاثون عاماً، بلغة الأرقام، مضت على هذه المادة وما تضمنته من توجيهات وسياسات عامة في الجانب الإعلامي، إلا أن التاريخ يشهد والأحداث تؤكد بأن هذه المادة عبَّرت فقط عن سياسات وتوجهات وقيم ومبادئ الدولة التي تأسست عليها قبل عشرات العقود، إذاً نحن أمام سياسات عامة أقرتها الدولة، وعملت عليها وفرضتها واقعاً لتلتزم بها جميع وسائل الإعلام التابعة والمملوكة للدولة والممولة بأموال الوطن في أي مكان تواجدت فيه واتخذته مقراً لها.
وبعيداً عن التساؤل حول مدى التزام وسائل الإعلام من عدمه بما تضمنته المادة 39 من سياسات وتوجيهات عامة في الجانب الإعلامي، افتراضاً بوفائها بذلك؛ فإن الأكثر أهمية هو التساؤل حول مدى الإبداع الإعلامي الذي حققته وسائل الاعلام -وخاصة المرئية- لخدمة السياسات العامة للدولة، وكذلك مدى الانتشار والتأثير الإيجابي الذي يخدم سياسة وتوجهات الدولة في كل المجالات وعلى جميع المستويات، ولعل الذي يستدعي مثل هذه التساؤلات العامة هو أن جميع هذه الوسائل الإعلامية -وخاصة المرئية- تتمتع برعاية حكومية غير محدودة، وبدعم مالي غير محدود، وبصلاحيات نظامية كاملة تُمكنها من الإبداع والابتكار بما يخدم السياسات والتوجهات العامة للدولة، وكذلك بما يمكنها من التأثير في توجهات الرأي العام إيجاباً على جميع المستويات السياسية، قد تكون الإجابة عن تلك التساؤلات المتعلقة بمدى الإبداع وبمدى الانتشار تحتاج إلى دراسة علمية مستندة لمناهج البحث العلمي المعتادة؛ ولكن هذا لا يمنع أن نطرح وجهة نظر تقوم على الملاحظة العامة لحال وسائل الإعلام -وخاصة المرئية- نظير ما تتمتع به من دعم مالي غير محدود، ورعاية حكومية كاملة، وأنظمة وتشريعات تمكنها من العمل على أكمل وجه.
وانطلاقاً من هذه الملحوظات العامة، نستطيع القول إن حال الإعلام -وخاصة المرئي- لم يستطع الوصول للنتائج التي من أجلها تم تأسيسه، والتي يقوم أساسها على القدرة في التأثير على توجهات وأفكار الرأي العام دولياً ليكون داعماً ومؤيداً ومُسانداً لسياسات وتوجهات المملكة البنَّاءة والإيجابية في جميع المجالات وعلى كل المستويات. نعم، لم يستطع الإعلام -وخاصة المرئي- من الإبداع والابتكار للوصول للمستويات العالمية التي يجب أن يكون فيها ويصل إليها تماشياً مع المكانة السياسية التي وصلت لها المملكة دولياً، إن هذه الحقيقة البيَّنة والملموسة للعامة، والتي لا تحتاج إلى اختبار، تستدعي منَّا التساؤل حول الأسباب التي أدت لتواضع مستوى الإعلام -وخاصة المرئي- مقارنة بالنجاحات العظيمة التي حققتها معظم مؤسسات الدولة على الرغم من صعوبات وتعقيدات بيئة العمل التي تعمل فيها وتتواجد بها؛ علماً بأن جميع مؤسسات الدولة وأدواتها، بما فيها وسائل الإعلام، تحظى بالرعاية والدعم والثقة الكاملة من الدولة.
وفي الوقت الذي يصعب فيه هنا وضع خطة عمل تُلبي تطلعات المواطن وتجاري نجاحات معظم مؤسسات الدولة في إبداعاتها وابتكاراتها وتقدمها في المعايير العالمية، فإنه يمكن القول إن عدم تحقيق وسائل الإعلام -وخاصة المرئية- للمستويات العالمية التي يُفترض أن تحققها إنما سببه ومصدره الاعتماد على الأفكار والطروحات الفردية، وتبني الاجتهادات والآراء الشخصية، والابتعاد عن العمل المؤسسي القائم على خطة استراتيجية معدة باحترافية عالية وعناية شديدة. ومن الضروري هنا أن نؤكد بأن هذا التواضع الإعلامي غير المتواكب مع الدعم والرعاية الحكومية، ليس سببه غياب التشريعات والتنظيمات، وإنما قد يكون، من أسبابه، عدم الاطلاع على ما تضمنته وثيقة السياسة الإعلامية في المملكة العربية السعودية، الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 169 بتاريخ 20 شوال 1402هـ، التي تضمنت خارطة طريق عامة تضمن تحقيق نجاحات إعلامية عالمية تتماشى مع سياسات وتوجهات وقيم الدولة، وتؤثر في آراء وأفكار الرأي العام بما يخدم سياسة المملكة على جميع المستويات الدولية، إن هذه الوثيقة التي صدرت قبل أربعين عاماً وضعت نقاطاً رئيسة وتضمنت عناصر أساسية تضمن -إن تم تطبيقها بعناية- أن تصبح المملكة نموذجاً دولياً فريداً بقيمها ومبادئها التي تأسست عليها، وتسعى إن تم تنفيذها أن تُصبح وسائل إعلامها قوة تأثير دولية بما تملكه من أدوات إعلامية محترفة، وقيم فكرية بناءة، وتوجهات دينية معتدلة.
وفي الختام من الأهمية القول إن الارتقاء بالإعلام للمستويات العالمية يتطلب وضع خطة استراتيجية يعدها أبناء الوطن، ويعمل على تنفيذها المحترفون مهنياً والمؤهلون فكرياً، ويقوم أساسها على الالتزام بقيم ومبادئ المجتمع، ويضبط عملها منهج الدولة الذي تأسست عليه وأصبحت من خلاله قائدة عربياً وإسلامياً وعضواً في مجموعة العشرين لأكبر اقتصاديات العالم، بهذه العناصر الوطنية المؤهلة والمحترفة، وبهذه الأسس والقيم الفريدة التي تميزت بها الدولة عن غيرها، يستطيع الإعلام الإبداع والابتكار للوصول للنتائج المنشودة وطنياً، ويتمكن من التأثير في الرأي العام دولياً، ويتقدم خطوات كثيرة نحو تحقيق نجاحات مماثلة لما حققته معظم المؤسسات الوطنية الأخرى.




http://www.alriyadh.com/1894960]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]