من أخطر أنواع التقليل من الشأن: التقليل من شأن الوطن وقيمه ومبادئه ومقدراته وأنظمته وحكامه، وهذا من الخطورة بمكان؛ لأن ما قبله من الأنواع الأخرى قد يُمارسه من لا يعدو خطره أن يكون مركَّزاً على إنسانٍ بعينه يحسده أو يخشى أن يُنافسه في شيءٍ معينٍ..
الإنسان بطبعه توَّاقٌ إلى المعرفة واكتشاف ما لا يعرف، فلا غرابة أن يُصغي إلى من يلفت نظره إلى جزئيةٍ معينةٍ، أو يقوّم له حالة معينة، ويتفاوت الناس في اختيار من يُصغى إليه، وما ينبغي أن يُصغى فيه إلى هذا أو ذاك، وتمييز ما يُقبل مما يُرد، هذا بالنسبة إلى المتلقِّي، أما ملقو التعليمات ومقوِّمو الأمور فهم أيضاً مُتفاوتون مُتباينون، فمنهم الصالح المصلح الذي يصف الدواء الناجع في الداء الذي يُعالجه، ويعرف كمية الدواء الصالحة، ويعي ضرورية اختلاف الأمزجة، وليست له دوافع جانبية تؤزُّه إلى أن يغشَّ المنصوح، ومنهم المتعالم المتسور على مهنة التوجيه والإرشاد؛ لمجرد شهية التأثير، ومنهم الغاشُّ المتعمد الإضرار بغيره بواسطة التقليل من شأن من يهمه من الأشخاص أو التقليل من شأن ما يتعاطاه من الأشغال، أو التقليل من أهمية قدرات الشخص نفسه، وهذا الصنف من الناس عبارة عن معاول هدم لها ألسنةٌ تنطق، فلا بد من التنبه لخطورتهم، ولي مع ممتهني التقليل وقفات:
أولاً: الإنسان منجم قدراتٍ ومواهب لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، فإن أظهر الفرد شيئاً من كوامن المواهب التي يتمتع بها فينبغي أن يُحتفى به، وأن يُعرف له ذلك، وهذا الاحتفاء إذا جاء في محله الملائم وبالقدر المناسب ففيه منفعةٌ للمجتمع لا لمجرد الشخص الـمُحتفى به؛ لأن الناس يستفيدون مما عند الموهوب، ويأتسي به بعضهم، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة بما كان لهم من المواهب فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر - وفي رواية: في أمر الله عمر- وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) أخرجه الإمام أحمد وغيره، أما مقابلة الشخص بالتقليل من شخصيته وتتفيه مواهبه ففيه قطع الطريق عليه، وقد يُؤدي إلى اجتثاث همته، وفي ذلك جنايةٌ عليه وعلى المجتمع بأسره، وما أسمج تصرف من يقول لمتحمسٍ لشيءٍ من معالي الأمور النافعة: ما أنت وهذا الأمر الصعب المنال؟ هذا لم يفعله فلان فكيف تفعله؟ كيف تجمع بين هذا وبين عملك؟ وما هذا الأسلوب إلا امتهانٌ لإجهاض الهمم.
ثانياً: من أساليب التقليل من المهماتِ تقليل شأن ذوي الإنسان في عينه، ومن يمتهن التقليل يعرف أن هذه مهمة صعبة؛ لأن الإنسان مجبولٌ على احترام وإجلال أهله وقرابته وهو مأمورٌ بذلك شرعاً، ولصعوبتها لا يصدع بها مباشرة؛ لئلا تنكسر زجاجتها على صخرة الفطرة، بل يُسرُّ الحسوَ في الارتغاء ويتظاهر بالتحرُّق والتأسف على واقع من يُريد استغفاله، ويُضخِّمُ له بعض الإخفاقات التي تُحيط به، ويُركَّزُ على ما كُتب له من ضآلة حظ، ثم يُلقي باللائمة في ذلك على من يريد أن يُقلِّل له شأنه، ويُكثرُ أمامه من المقارنات الجائرة التي يستشعر من لا بصيرة له أن نتيجتها قصورٌ أو تقصيرُ طرفٍ معينٍ؛ لأن الصلة به لم تُثمر من المكاسب المرموقة ما أثمرته الصلة بفلان، وقد يُمارسُ المقلِّلُ هذا التزهيدَ ضدَّ كل من لا ينبغي أن يُزهد فيه، سواء كان والداً أو أماً أو زوجاً أو زوجةً أو قريباً أو زميلاً أو معلماً، وعلى الإنسان إذا فهم من محدثه انتهاج هذا الأسلوب أن لا يُصغي إليه، وأن لا يأبه بما يقوله؛ لأنه بصدد أن يُوقعه في متاهةٍ خطيرةٍ.
ثالثاً: من أخطر أنواع التقليل من الشأن: التقليل من شأن الوطن وقيمه ومبادئه ومقدراته وأنظمته وحكامه، وهذا من الخطورة بمكان؛ لأن ما قبله من الأنواع الأخرى قد يُمارسه من لا يعدو خطره أن يكون مركَّزاً على إنسانٍ بعينه يحسده أو يخشى أن يُنافسه في شيءٍ معينٍ، أما التقليل من الشأن العامِّ والقائمين عليه فإنما يتعاطاه مردة المفسدين الذين تتقاطر الأحقاد والمخاطر في كلماتهم إذا تكلموا كما يتقاطر سُمُّ الأفاعي إذا عضَّت، وهؤلاء لا يسوغ الاستماع لهم البتة مهما ظنَّ الإنسانُ أنه مُحصَّنٌ ضد أفكارهم؛ لأن في الاستماع لهم تشجيعاً لهم على التمادي في المكابرة والبغي، وكذلك لا تسوغ متابعة حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي؛ تجنباً لما تنفثه من سمومٍ وابتعاداً عن تكثير سواد متابعيهم، وسيعرفون يوماً ما أن من تصدى لتقليل شأن ذي الشأن فسيحيق به مكره السيئ، ويصبح شأنه قليلاً ويبقى ذو الشأن عالي القامة مرفوع الهامة.
http://www.alriyadh.com/1906252]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]