مسابقة مجسم وطن التي أطلقها الفوزان لخدمة المجتمع لا تقبل التكرار والتقليد المتهافت، ولا ترى في التراث مخزونا ساكنا، بل هي تتطلع إلى خلق البيئة المفكرة المبدعة التي تستطيع اكتشاف ما وراء الظاهر وتتجاوز الفهم السهل المباشر للتراث..
بعثت ببعض الصور لمجموعة من الزملاء لمجسم دوار عنان السماء وميدان العرضة اللذين دشنا ليلة البارحة في كورنيش الخبر احتفاء باليوم الوطني 91، وأغلب هذه المجموعة من المتعلمين تعليما عاليا وأساتذة في جامعات في تخصصات عدة، وبينهم معماريون ومصممون، وكان هدفي بالدرجة الأولى أن أتبين ذائقتهم الجمالية وميولهم الفنية والفكرية، وربما كان تساؤلي الأهم هو: هل تطورت الصورة الذهنية الجمالية في المجتمع السعودي أم أن الميول التقليدية ما زالت راسخة ومتشبثة بجذورها؟ ولعلي هنا أقول إن ما كنت أبحث عنه هو هل سيتشكل انفصام بين الجيل القديم (وهم المجموعة التي بعثت لهم بالصور) وبين الجيل الشاب على مستوى الذائقة الجمالية؟ وهل هذا الفصام سيزيد من حدة التناقضات البصرية التي ستواجهها المدينة السعودية في المستقبل؟ وهل هذا يعني أن حركة التغيير ستكون أبطأ مما نتوقعه؟ فحسب النظريات الاجتماعية أن المجتمع لديه قدرة كامنة داخله يستعيد بها الاستقرار لمحركاته عندما تحدث هزات كبيرة، وهذا يتطلب بعض الوقت قد يقصر أو يطول حسب الصراع بين أجنحة المجتمع المختلفة.
ردة فعل بعض الزملاء كانت متشبثة بالتقليد وبالأشكال التراثية الراسخة في الذهن ويرى أنها فقط التي تمثل الجمال، ويبدو أن مجسم عنان السماء على وجه الخصوص أصابهم بالصدمة، فهو شكل حداثي تجريدي وصفه بعض نقاد الفنون بالتكوين "السوريالي" الذي ينطوي على كثير من الرموز ويحتاج تأنيا في تفكيكه وفهمه، فهو عبارة عن منحوتة تمثل قمة طويق ترمز إلى همة السعوديين التي وصفها سمو ولي العهد بأنه تشبه "قمة جبل طويق" ويتكون من كتلتين تولدان من الأرض في إشارة إلى رسوخ الشعب السعودي في أرضه وانتمائه لهذه الأرض وتحمل الكتلتان كتلة ثالثة معلقة تحدث اتزانا بين الكتلتين الكبيرتين، هذه الكتلة المعلقة هي علم المملكة وهنا تبدو الإشارة إلى أن الشعب السعودي متشبث بوطنه ويحميه من أي مخاطر ويفديه بالنفس والنفيس. هذه الرمزية العميقة قال عنها بعض المنتمين للجيل القديم إنها رمزية صعبة الفهم وكانوا يرون أن الدلة والمبخر وبعض الأدوات التقليدية تعكس التراث والانتماء أكثر من هذا الفلسفة الجمالية التجريدية.
لا أنكر أنني صدمت من هذا الرأي المنحاز للتقليد والتكرار، الذي يفضل الحلول السهلة ولا يريد أن يأخذ بيد المجتمع للتفكير خارج المتعارف عليه والمتوقع، بالطبع البعض علق على هذا الرأي بقوله إنه يصعب أن يجتمع الناس على رأي واحد حول ما هو جميل وما هو قبيح، وأنا أتفق معهم، لكن المشكلة لا تكمن هنا، بل في هذه القناعة العميقة لدى البعض في عدم الحاجة للتغيير، والتشبث بما يمكن أن يفهمه ويتعرف عليه الناس بشكل سهل ومباشر ومحاربة المغامرة الفكرية ومقاومة كل المحاولات التجريبية التي قد ينتج عنها أفكار جديدة، إشكالية العقل المفكر هذه لا تتوقف عند تقيم التجربة الجمالية والحكم عليها بل تمتد إلى كافة مناحي الحياة العلمية والفكرية والثقافية والاجتماعية وتريد أن تجعلها ساكنة لا تخرج عما هو مرسوم لها، ولعل هذه الظاهرة على وجه الخصوص هي ما دعتنا إلى عنونة هذا المقال بـ "تهافت التقليد" ورغم ما يستعيده هذا العنوان من صراع فلسفي بين أبو حامد الغزالي وكتابه "تهافت الفلاسفة" وابن الرشد الذي كتب "تهافت التهافت" بعد ردح من الزمن، إلا أن عنوان المقال يدعو إلى التفكير الفلسفي الذي يتجاوز الظاهر ويغوص في الكامن خلف الأشياء ويحث على التأمل العميق.
الفلسفة التي تبنتها مسابقة "مجسم وطن" هي صناعة التأمل الجمالي الفكري وعدم العبور أمام المنتجات التي تنتج عن المسابقة مرور الكرام، فالعمل الذي لا يستوقفك لا يستحق المكان الذي بني فيه ولا يستحق أن يشاهده الناس، في يوم الوطن السابق (90) أطلقت المسابقة مجسم "البيرق" في مدينة الخبر، وهو عمل بين التجريدي والواقعي لكنه عبارة عن رواية تحكي قصة توحيد الوطن لتختزل في هذا التكوين الذي يشير للعلم الرمز الذي يربط الجميع، وهذا العام تم إطلاق مجسم عنان السماء ومعه "ميدان العرضة" والميدان عبارة عن 13 عمودا ترمز إلى مناطق المملكة الثلاثة عشر وقد اصطفت في صفوف لتشير إلى رقصة العرضة التي ترمز للقوة وتنفتح على ميدان احتفالي ونافورة راقصة، من بعيد تشعر أن الأعمدة تمثل جدارا واحدا يشير إلى وحدة وتلاحم مناطق المملكة وترى تكوينا تجريديا وكأن راقصي العرضة في حالة تأهب واستعداد دائم.
مسابقة مجسم وطن التي أطلقها الفوزان لخدمة المجتمع لا تقبل التكرار والتقليد المتهافت، ولا ترى في التراث مخزونا ساكنا، بل هي تتطلع إلى خلق البيئة المفكرة المبدعة التي تستطيع اكتشاف ما وراء الظاهر وتتجاوز الفهم السهل المباشر للتراث وتبحث عن لحظات الإلهام التي توصل تراثنا للعالم كلغة خطاب للمستقبل تتفق مع رؤية المملكة 2030.
http://www.alriyadh.com/1909239]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]