لعله من المناسب هنا تذكير بعض من يظن أن المجتمعات المسلمة انسلخت عن دينها لمجرد تحول الناس من رأي فقهي إلى رأي فقهي آخر، فهذه التحولات قد لازمت المسلمين على طول تاريخهم الفقهي، ولا يعني ذلك تبرير بعض المخالفات التي تستغل هذا التحول، فكل شيء يقاس بميزانه..
في قول الله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) وصف دقيق يجلي الحالة التي عاش عليها ثلة من الناس في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لم يكن في قلوبهم من معاني الإيمان شيء، فكانوا يجاهرون الله فيما بينهم من سيئات وأخلاقيات لا يرتضيها الإسلام، ولا يحتملها فقهه، بل كانت محض عداوة لهذا الدين. وهذا الوصف لا يصح ولا يجوز إيقاعه على مسلم سواءً منفردًا أو في جماعة، فلا يصح أن يقال في مسلم أو جمع: "يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله" فهذا تعريض بالنفاق وتشكيك في إسلام وإيمان الآخرين بدون أي مسوغ شرعي أو قضائي، فإن معنى (ولا يستخفون من الله) أي لا يستحون منه ولا يخافونه ولا يؤمنون بإحاطته بهم وكونه معهم كما في تتمة الآية (وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول).
فكل هذه المعاني لا يصح أن ترمى بها المجتمعات المسلمة ولا التعريض بزرافات الناس في أي جمع من اجتماعاتهم، وفي مثل هذا المقام قد يختلط هذا المعنى من الاستخفاء بما أمر به الشرع من الستر وعدم المجاهرة حين يقع المؤمن في بعض الزلات والمخالفات، فطبيعة الإنسان التي ترافقه في حياته توقعه في كثير من مخالفات الشرع قد تصل إلى الكبائر والموبقات، وقد تستوجب الحد في بعض منها لكنّ شرعنا الرحيم يحافظ على صون عرض المسلم، فأمره بالستر طالما لم يتعد بذنبه على الآخرين، فقال صلى الله عليه وآله وسلـم: من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله جل وعلا. رواه البيهقي والحاكم وصححه السيوطي. وفي رواية «فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله». وفي الروايات التي فيها اعتراف بعضهم بالزنا في زمنه صلى الله عليه وآله وسلـم كان يعطي للمعترف الفرصة للستر ويلقنه الأعذار المحتملة لعله يستر بها نفسه، وهذا عكس ما عليه كثير ممن ينتسب للدين والدعوة من حرصه على فضح الآخرين أفرادًا وجماعات، وحرصه على إقامة الحدود على بعض المخالفين مع إمكان سترهم ونصحهم ووعظهم، ظنًا منه أنه ما دام بلدنا يحكم بشرع الله وتقام فيها حدود الله فلا بد من تتبع العصاة والمخالفين، وهذا خلافًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يتوافق مع رحمة الله وستره لعباده.
وتتبع العثرات وفضح العصاة إنما كانا مسلكًا لأهل النفاق، وهذا لا يشمل ما يفعله المسلم من ظلم أو جنايات بحق الآخرين مهما صغرت فإنه لا يحق التستر على الجاني ولا يحق للجهة المختصة التساهل معه بل يجب تتبعه وإخضاعه للعدل.
ولعله من المناسب هنا تذكير بعض من يظن أن المجتمعات المسلمة انسلخت عن دينها لمجرد تحول الناس من رأي فقهي إلى رأي فقهي آخر، فهذه التحولات قد لازمت المسلمين على طول تاريخهم الفقهي، ولا يعني ذلك تبرير بعض المخالفات التي تستغل هذا التحول، فكل شيء يقاس بميزانه، بلا إفراط ولا تفريط، فربما مكث الناس - مثلاً - فترة ليست بالقصيرة على رأي تغطية وجه المرأة وكفيها واعتبار مخالفته ذنبًا وجرمًا كبيرًا، وفي خلال وقت يسير إذا بكثير من الفتيات والنساء تخالف هذا الرأي المقرر مجتمعيًا! فليس معنى هذا أنهم كانوا يخفون في أنفسهم ما يخالف شرع الله وأنهم كارهون للدين وإنما يتحينون الفرص، بل معناه والذي لا يجوز غيره أن أكثر المجتمع كان يشعر أن الأمر فيه تضييق فقهي وفرض رأي في خلافه سعة، وقد كان الواجب على العلماء والفقهاء تبيين الرأي الآخر واعتبار المسألة - وغيرها من المسائل التي يشغب بعضهم بها اليوم على المجتمع - خلافًا فقهياً، وما ند به أفراد من الناس لا يتعدى كونه مما يُستر ولا ينشر. هذا، والله من وراء القصد.
http://www.alriyadh.com/1915874]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]