لعل من أساسيات الدراسات المقارنة، ومبادئها المهمة، التركيز على مسألة التبادل المعرفي، والتواصل الحضاري، ويأتي ذلك عن طريق الاستفادة من العلوم، والمعارف، والآداب، والمؤلفات، ومن ذلك ما نجده في لغتنا العربية التي تحتفي هذه الأيام بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية تحت شعار (اللغة العربية والتواصل الحضاري)، ويمكن القول: إن الصلات بين الآداب العالمية، واللغات المختلفة مسألة مرتبطة بما تبدعه تلك اللغات من آداب، وثقافات، وبخاصة حينما يُكتب للغة ذيوعاً، وشيوعاً، يقول (إلكساندر ديما) في كتابه (مبادئ علم الأدب المقارن): «يجب أن لا يتطرق إلينا الشك بأن علاقات الاتصال بين الآداب متعلقة إلى حد كبير بمدى انتشار الكتب نفسها، باللغات المناسبة، وبالقدر الذي تكون فيه مفهومة، ومعروفة للقارئ».
وبعد أن أعزَّ الله العربية بالإسلام زادت إقبالاً على الآخر، وانكبّ الآخر عليها حتى صارت حضارة العرب لا تقل شأناً وشأواً عن الحضارات الأخرى في قوة حضورها، بل أخذت تنافس - منذ القديم - حضارات الأمم الأخرى، كالصين، والهند، والفرس، وغيرهم، ومن هنا انفتحت اللغة العربية على العالم، وتكوّن لها تاريخ مجيد، وحاضر مشرق، ومستقبل مشرئب.
وإذا سلمنا بأن الالتقاء بين الآداب، وتأثرها، وتأثيرها، من أهم مبادئ المقارنة أدركنا أن بعض الحضارات بما فيها من علوم، ومعارف، قد يحدث بينها شيء من التواصل، ولعل الحضارة العربية من أهم الحضارات العالمية تأثيراً في الآخر، إذ لم يكن تأثيرها محدوداً في جوانب معينة، بل امتد ليشمل مجالات كثيرة، وحضارات عديدة ومتنوعة، وهو ما يجعلها قمينة بالتواصل الحضاري مع الآخر غير العربي.
هذا ولقد أضحى أثر الحضارة العربية جليّاً في خارطة التمدّن العالمي، ولم يعد هذا التأثير محصوراً في نطاق واحد، بل رأيناه في جوانب متعددة جعلت بعض الأوربيين يعترف بكل وضوح بفضل العرب وتأثيرهم، وقد ترجم الأديب (عباس محمود العقاد) هذا التمدد الحضاري في كتابه (أثر العرب في الحضارة الأوروبية) حينما أشار إلى أن الأوربيين - مثلاً - مدينون لبطحاء العرب، بمعظم القوى الحيوية الدافعة، وهم مدينون للعرب كذلك بجميع القوى التي جعلتهم يتطورون ويتقدمون بعد القرون الوسطى.
وتبدو جهود بعض المستشرقين واضحة في اهتمامهم العجيب، وحرصهم الشديد، على تلقّف حضارة العرب، وانصرافهم إليها، وانعطافهم عليها، والتعرف على أسرارها، وكوامنها، بل لقد ذهب أحدهم في العصر الحديث - وهو المستشرق السويسري الألماني (آدم متز) - إلى تأليف كتاب يتناول تفاصيل الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري مثلاً، وكان مما تناوله الأدب العربي، حيث تعمق فيه منذ القديم، وألمح إلى الأجناس الأدبية التي كانت سائدة ومألوفة في ذلك الزمن، وركّز بشكل كبير على أهمها، كما توقف عند أثر العرب في تلك الفترة في علوم كثيرة متباينة: نظرية، وتطبيقية.
ويمكن أن نشير - من باب الاستشهاد - إلى أن النثر العربي القديم على سبيل المثال كان أحد دلائل التواصل الحضاري، ويظهر ذلك جلياً في انبهار كثير من المستشرقين بالحضارة العربية، حتى جعلتهم يعنون بتراثنا أيما عناية؛ لذلك انكب الأوربيون وغيرهم على ترجمة العديد من المؤلفات العربية القديمة، والإفادة منها، وكان هذا الأمر عاملاً مهماً في رصد تواصل اللغة العربية مع الآخر.
http://www.alriyadh.com/1924637]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]