المجتمعات المتطورة تدرك حاجتها من المنجزات والحضارة وتنقلها أو تقتبسها، والمجتمعات غير المتطورة لا تستوعب مضامين الأفكار المعقدة عند المجتمع المتقدم، وتسعى لنقل الأدوات وليس الأفكار ولذلك عندما تكون المجتمعات متقاربة في تطورها يكون التبادل بينهما أشمل وأدق..
علاقتي الثقافية بالمكتبات العامة قديمة تكرست أثناء دراستي في الولايات المتحدة الأميركية وتركيزي على البحث العلمي، وعند ذلك توثقت علاقتي بالمكتبات، فقد كنت عندما أسكن في أي مدينة أبدأ في البحث عن مكتباتها العامة ومن ثم أصبح أحد روادها، ومن حسن حظي أنني اليوم أسكن قريبًا من مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، فقد بدأت علاقتي مع مكتبة الملك عبدالعزيز عندما شاركت مع بعض الأكاديميين في حوار مع برلمانيين بريطانيين عقد في مكتبة الملك عبدالعزيز، ومنذ ذلك الحين فتحت علاقة معرفية بالمكتبة لأستفيد من كنوزها العلمية، واليوم أصبحت في علاقة ديناميكية مع هذه المكتبة الفريدة، وأنظر لها من منظار ثقافي وفلسفي. فالمكتبات بصفة عامة أهم عوامل صنع الثقافة إن لم تكن العامل الأهم على الإطلاق.
وإن كان حصاد التفاعل اليوم مع المكتبات العامة بشكل عام أكثر قليلًا من الصفر فالتثقيف بشكل عام لم يعد طابع الحياة الحديثة وهذا الوضع لا بد له من علة وهنا يدخل عامل الميراث الحضاري والثقافي والوجداني، وفي هذه الحالة يأتي دور التعليم في تنشئة المدرسة الحديثة على فلسفة تربوية وثقافية وهذا يدفع إلى التركيز على مادة المكتبة هذه المهارة من التعليم هي التي تصنع الثقافة، وقد أدركت كثير من المؤسسات التعلمية في العالم دور هذه المهارة التثقيفية الإيجابي على الحياة الثقافية فكل خطوة نخطوها في طريق الثقافة تأخذنا إلى الانفتاح والتجديد والتغيير.
لا جدال في أن أبرز سمات الحياة المعاصرة التغيير وسواء نظرنا إلى هذا التغيير إيجابا أو سلباً فإن الواقع الذي لا بد من الاعتراف به هو أن المستحدثات والمكتشفات في مختلف المجالات في تجدد دائم، فالتغيير أصبح طابع هذا العصر وما علينا أن نفعله هو التكيف مع المستجدات والكشوفات والتكيف يعني ملاءمة الذات مع الوقائع الجديدة بنوع من التوافق والتكامل بين ما يفرضه العصر من تجديد وما لدينا من تشريعات وقيم.
فالتغيير اليوم فرض نفسه على العصر وهذا يدفعنا إلى التكيف الواعي وإعادة بناء منهجية التفكير في رؤيتنا لهذا العصر، فالمفكر اليوم يختلف عن المفكر في الماضي فحياة الماضي تقوم على معطيات حضارية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وكان المفكر والدارس والباحث يتحرك من خلال تلك المعطيات ولكن الوقائع المستجدة في الفكر والتقنية تتطلب منهجية جديدة في التفكير والاستقراء الكامل لما حولنا ضمن إطار حضاري، وكما يقول الدكتور محمد عابد الجابري: لا بد إذن من انفتاح جديد لمواجهة الانفتاح الحضاري الذي حصل وذلك بالانفتاح على الحياة والمعطيات الجديدة، فالمجتمع أو الفرد الواثق من ذاته لا يخشى العناصر الجديدة فطبيعة الفرد أن يكون منفتحا على الجديد ويؤمن بمقدرته على الاختيار، فالتغير الذي حدث مع الحضارة الصناعية والذي يحدث اليوم مع الثورة العلمية والمعرفية حاجة عصريةً وهذا لا يعني أننا ننادي بالاندماج والالتحام الكامل بالحضارة الغربية بل إن من أهم ما نخشاه من توسع الحضارة الغربية بشكلها الحاضر هو أن تطبع العالم كله بطابع واحد فنخسر كثيراً من الغنى الناتج عن تنوع الحضارات والثقافات وإنما المقصود أن يكون هنالك انسجام وتناغم مع مختلف الثقافات تنبثق من طبيعة إنسانية واحدة، ولكن العصر الحاضر والذي تمثله اليوم المدنية الغربية المعاصرة تميز بالتقدم التقني والإدراك الذاتي والتقدم المعرفي والذي اجتمعت فيه القدرة الحضارية مع القدرة المادية في وقت واحد فكان التأثير الحضاري والذي نراه في التقدم التقني والمستجدات الحديثة، وإن كانت بعض تلك المستجدات أكثر تأثيراً من بعض، فمثلا أدوات الاتصال نجدها أكثر سرعة وسريانا ونفاذا واستخداما من الأفكار والعلوم والآداب والفنون.
ويذهب قسطنطين زريق إلى أن انتقال العناصر الحضارية المختلفة وتفاوتها في النفاذ إلى الثقافات والمجتمعات الأخرى يختلف من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، فعندما ننظر إلى المستجدات من أدوات الاتصال أو أي مصنوعات أخرى أو الآداب أو العلوم أو الفنون ونقارن مدى الإقبال عليها وسرعة انتشارها، نجد أن أدوات الاتصال تسبق العناصر الأخرى من أفكار وعلوم في الإقبال عليها ولا يرجع هذا إلى مهارة تسويقية، وإنما إلى عوامل اجتماعية وثقافية ونفسية أو ترفيهية أو محاكاة أو تقليد أو غيرها، ولكن هل المجتمعات على درجة واحدة في الاقتباس من المدنيات الحديثة ومستحدثاتها، في تصوري أن المجتمعات المتطورة تدرك حاجتها من المنجزات والحضارة وتنقلها أو تقتبسها، والمجتمعات غير المتطورة لا تستوعب مضامين الأفكار المعقدة عند المجتمع المتقدم، وتسعى لنقل الأدوات وليس الأفكار ولذلك عندما تكون المجتمعات متقاربة في تطورها يكون التبادل بينهما أشمل وأدق؛ لأنه لا يقتصر على الأشياء المادية فحسب، بل تتعداها إلى المضامين الفكرية والعلمية ولكن رؤية 2030 فتحت لنا الطريق واسعا للدخول إلى العالم الحديث.




http://www.alriyadh.com/1927873]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]