نادرةٌ جداً تلك الكتب التي توقظ فينا إحساساً بالتراث الأصيل، وشعوراً بالمعاصرة المتجددة، هذا الكتاب الماتع النافع أحدها، وقد وسمه مؤلفه بـ(عروق الذهب، دراسة لجماليات النقد الأدبي)، كتابٌ نفيس كنفاسة صاحبه، الصديق العزيز، والشاعر المبدع د. سعود بن سليمان اليوسف، كتاب متميز كتميز نادي تبوك الأدبي الذي قام بإصدار طبعته الأولى عام 1437هـ، وقد لفتت جمالياته انتباهي منذ البداية، عندما أهدانيه مؤلفه بهذا الإمضاء المطرب: "صديقي العزيز جداً د. فهد البكر، أهدي إليك عروق الذهب؛ لأن المعادن على أشباهها تقع.."، ولم يكن هذا الكتاب ليدهشني بهذه العبارة فحسب؛ فقد عهدتُ صديقي نقيّاً وفيّاً، وعرفته شاعراً نديّاً بهيّاً.
وبعيداً عن عرى الصداقة المتينة، فإن هذا الكتاب يعد مثالاً فريداً في دراسة (أدبية) الخطاب النقدي القديم، وتحديداً في المشرق العربي، وقد كنتُ شاهداً على ولادته، ونشأته، ونموه، منذ أن كان أطروحة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود، يوم كان مؤلفه يتعاهده بالدرس الدقيق، والبحث العميق، فاستوى على سوقه نفيساً في عنوانه، ولغته، ومادته، ذا رونقٍ وبهاء في فحواه، ومحتواه، حتى أن من يتأمله كأنما يتأمل في عروق الذهب.
وقد صدّر المؤلف كتابه هذا بعبارة الشاعر البحتري: "أين الشعر الذي فيه عروق الذهب؟!" كأنه يشير من خلالها إلى أنه ينقّب في جبل، ويمكنني أن أحور في عبارة البحتري فأقول: "أين النقد الذي فيه عروق الذهب؟!"، وسأجيب عن هذا السؤال: بأنها في جوف هذا الكتاب الذي كشف في تمهيده عن (مفهوم الأدبية، والشعرية)، وحاول التفريق بينهما بشكل موجز، ودقيق، فذكر بأن الشعرية علم عام، موضوعه الأدبية، يروم القيام علماً للأدب، وغايته استنباط الخصائص النوعية، والقوانين الداخلية للخطاب الأدبي، وصولاً إلى ما اجترحه الإنشائيون المهتمون بالشعرية في كونها غير منحصرة بالعمل الأدبي في حد ذاته، وإنما هي استنطاق لخصائص ذلك العمل.
ثم يكشف هذا الكتاب عن مفهوم الخطاب لغوياً، واصطلاحيّاً، مروراً ببعض تعريفات الخطاب المهمة، ثم يزيح مؤلفه الستار عن أهم نقطة فيه، وهي (أدبية الخطاب النقدي)، حيث أراد بها: "ما أُثِر من نصوص ذات قيمة نقدية، وتحمل في تعبيرها سمة أدبية"؛ لذلك اهتم المؤلف بلغة هذا اللون من الخطاب، من حيث اختيار الألفاظ، وجمالية التراكيب، والروافد النصية، ومصادر الصورة، وأنواعها، وتناسلها، كما تحدث الكتاب عن حضور الإيقاع في الخطاب النقدي، وتداخل هذا الخطاب مع الأجناس الأدبية، كالشعر، والخبر، والحكم والأمثال، والرسالة، والمقامة، وخُتِم الكتاب بأهم الوظائف الأدبية التي اضطلع بها الخطاب النقدي، كالوظيفة التعبيرية، والإقناعية، والإبداعية.
لقد فتح هذا الكتاب الباب على مصراعيه لدراسة الخطاب النقدي من جهته الجمالية، وليست المعيارية فحسب، ولئن كان اهتمامه منصبّاً على دراسة هذا الخطاب في المشرق العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، فقد جعل أفق الدراسة مفتوحاً على دراسة الخطاب النقدي بعد القرن الرابع الهجري، ودراسته في المغربي العربي في زمن قصير، أو أزمنة متطاولة.
ومن الطريف أنني قرأتُ إعلاناً لمناقشة أطروحة دكتوراه بجامعة الملك سعود وأنا أُعِدُّ هذا المقال، وقد حمل عنوان تلك المناقشة (شعرية اللغة في الخطاب النقدي المعاصر، دراسة في نماذج مختارة)، للطالب متعب الرميحي، وبذلك تصبح عروق الذهب أكثر تمدداً، وتنوّعاً، وجمالاً.
http://www.alriyadh.com/1928391]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]