كثيراً ما نسمع بقاعدة: "لا إنكار في مسائل الخلاف" وهو ما نقل عن غير واحد من الأئمة، وفي حلية الأولياء عن سفيان الثوري: "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ"..
إن الكلام عن وجود مسائل خلافية في الفقه وسوغ الخلاف فيها لا يستطيع رده أحد، فهو أمر واقع مفروغ منه مذ عصر النبوة، وما زال العلماء والفقهاء يختلفون ويرد بعضهم على بعض، ويناظر بعضهم بعضًا للوصول إلى الحق بغير "انتهاك حرمة مخالف" مهما بلغ الخلاف حدته في المسألة طالما ويشملها مفهوم الخلاف، وينبغي للناظر أن يفرق بين الفتوى القضائية والرأي الفقهي، فإن الفتوى القضائية تقضي على مسمى الخلاف وتكون ملزمة لمن صدرت في حقه، قال ابن الوزير: "فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها.. والله أعلم".
ويبقى الكلام في ضابط الإنكار فيها، وكثيرًا ما نسمع بقاعدة: "لا إنكار في مسائل الخلاف" وهو ما نقل عن غير واحد من الأئمة، وفي حلية الأولياء عن سفيان الثوري "إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ فَلَا تَنْهَهُ". ولكننا في الواقع نقرأ ما نقل عن الأئمة والعلماء في الإنكار في بعض تلك المسائل، والحقيقة أن الإنكار الذي يكون هدفه النقاش والوصول إلى الحق في المسألة هذا لا شك أنه مشروع، وإن اقترن به أحيانًا رفع صوت وحدّة قول، قال الإمام الذهبي رحمه الله: "قَالَ يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ ثُمَّ افْتَرَقْنَا وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى ألَا يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَاناً وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ".
قُلْتُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَقْلِ هَذَا الإِمَامِ وَفقهِ نَفْسِهِ فَمَا زَالَ النُّظَرَاءُ يَخْتَلِفُوْنَ"، وتبقى الأخوة والكلمة الحسنة بين المختلفين هي السائدة، وأما الإنكار الذي يحفه سوء الظن وسوء القول، والهجر والفحش والتفسيق والتبديع ووو.. الخ، فلا شك أنه هو المعني بقولهم "لا إنكار في مسائل الخلاف" لأن حقوق المسلم وحرمته ثابتة قطعًا بلا خلاف فكيف ننتهكها بمسألة اختلف فيها؟!
وليس هناك ضابط لحصر وعد مسائل الخلاف على كثرة من ألّف فيها، فإنه إن قيل: "ما لم يكن في المسألة إجماع" فقد ادعي الإجماع في كثير من مسائل الخلاف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ "الثلاث طلقات في المجلس الواحد"، وإن قيل: "ما لم يكن في المسألة نص من آيةٍ أو حديث" فستبقى الحاجة لازمة لضابط النص، فما قد يكون نصًّا في نظر فلان، قد لا يكون كذلك في نظر آخر، إما لضعفه عنده أو لمعارض آخر مثله، أو لمفهوم أضعف نصيته عنده، وغير ذلك، غير أن الضابط الأقرب لكون المسألة مسألة خلافية، هو "أن تكون من مسائل العصر تعتمد على النظر، أو سبق الخلاف فيها من عالم معتبر" وقد يختلط على البعض كثير من المسائل التي تنازع فيها بين مدعي الإجماع وبين نافيه، أو دعوى انعقاد إجماع بعد خلاف وهو الأمر الذي يُستغرب فعلاً، خاصة حين دعوى إجماع متأخرة تقضي على خلاف أشهر من نار على علم كما هو الشأن في الخلاف في الغناء بالمعازف.
وإذا علمت ما تقدم فليس المقصود في هذا المقال هو تحرير مسألة بعينها هل هي حرام أو مباح! وإنما الغاية هنا حين إثبات أن المسألة خلافية، وثبت كونها مسألة خلافية فليس لتبني القول بها كبير أثر إلا عند من يحاولون "تجاوز سيرة السلف" إلى طريقة "منع الخلاف" وإسكات المخالف، بالإنكار غير المبرر، بل وتشويهه وتبديعه وتفسيقه، والافتراء عليه تنفيرًا للناس عنه، وهذا قد يُستغرب أن يفعله مسلم، فكيف بمنتسب للفقه؟! هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1934718]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]