لولا الله ثم تدخل الدولة العثمانية ضد طابعة "غتنبرغ" لدمرت صناعة ناضجة وعريقة استثمرت فيها أموال طائلة، ولصعوبة السيطرة على الإنتاج الكبير الذي تعد به الصناعة الجديدة، كانت الثقافة الإسلامية معرضة لتهديد حقيقي، هكذا كان التصور الشائع لموقف الدولة العثمانية من الابتكار الجديد، وهو موقف لا يخفى اليوم علينا سلبياته، وإن تعقدت مسبباته، فقد سمح لغير المسلمين طباعة نصوص غير عربية، حيث افتتحت مطابع للجالية اليهودية في إسطنبول أول الأمر، ثم مطابع أخرى للجالية الأرمنية واليونانية، وبمرور الوقت دخلت الأسواق كتب عربية طبعت في إيطاليا وسمح لها بالتداول.
مع انتشار الكتاب المطبوع في أوروبا، تداعت الآثار العميقة على مجتمع لم تكن له صلة وثيقة بالكتاب، فقد كانت أوروبا الأرض الخصب لاختراع قاومه العالم الإسلامي بدعم الدولة، ورغم ما لصناعة الكتاب من أهمية في النهضة العلمية عموماً، إنما كانت آثار الصناعة في مجتمع لم يعرف الكتاب أكبر من آثاره في مجتمع كانت صناعة الكتاب فيه مزدهرة، ممثلة في سلسلة مركبة من عناصر الإنتاج: المواد الأولية، واليد العاملة، ومواصفات المنتج، والمستهلك. في غياب عناصر الإنتاج أو ضعفها في أوروبا، كان سهلاً على الابتكار الجديد أن يزدهر بسرعة، خلاف التحول الذي كان على صناعة النشر الناضجة أن تمر به، بإعادة الهيكلة بناء وتدميراً.
كان موقف الدولة العثمانية من الطباعة ممثلاً لهاجس الخوف الذي استقبل به المجتمع التحول الجديد، كانت صناعة الكتاب في العالم الإسلامي مستقرة بوجود آلاف الوراقين الذين يؤمنون بشرف مهنتهم التي تعتني بالكتاب أعظم اعتناء، فإذا كانت الطباعة تستبدل الخطاطين، فكيف لآلة تنتج عشرات الصفحات في الدقيقة أن تتفوق على مهارة خطاط يعتني بأدق تفاصيل الحرف المكتوب رسماً ومراجعة وتشكيلاً؟ وكيف يأمن المسلمون على القرآن إذا تولت طباعته آلة قادرة على طباعة الخطأ مئات المرات بمعزل عمن يعتني برسمه حرفاً فحرفاً، إدراكاً لرسمه وتجويده؟ وهل يأمن المسلمون على القرآن الكريم من طهارة الحبر الذي تطبع به الآلة؟ فقد استبدلت الطابعة الحبر المائي الذي يعتمده الخطاطون بحبر مصنوع من زيوت لا يعلم مصدرها، كانت كل تلك الهواجس كافية ليستقبل المجتمع الطباعة الحديثة استقبالاً فاتراً، فلا يمكن أن تؤخذ الآلة الجديدة على محمل الجد كمنافس حقيقي لمهارة الوراقين وعنايتهم بالكتاب،
للتحول إلى صناعة النشر الجديدة، كان على الناشرين الانتقال من صناعة أساسها الرسم إلى صناعة أساسها السبك، كان سبك الحروف العربية في قوالب بعد صهر مادتها الأولية صناعة مختلفة تماماً معرفةً ومهارة. ونظراً لمخرجات المطابع العربية الأولى، لم يكن بعيداً أن يفضل المستهلك كتب الوراقين لأسباب جمالية، كان على الناظر في الصناعة الجديدة أن يرى مآلاتها وقيمتها الإجمالية على المدى الطويل، وهو ما لم يكن موجوداً للأسف آنذاك.
http://www.alriyadh.com/1935940]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]