إن المعرفة نسبية حسب نوع المتلقي وحسب ثقافته، فهي متغيرة، وهذا ما أكده كل من بوردو وأرابيل في استبيان، وهو علاقة الثقافة بالتلقي في معرض للفنون التشكيلية حيث أثبتا نسبية التلقي حسب الثقافة، هذه النسبية هي ما لم يحسب الخطاب النخبوي العربي حسابها مما نتج عنها ثقافة الاغتراب والتي تؤدي بدورها إلى ثقافة النزوح إما على مستوى الجسد أو على مستوى التلقي..
إذا ما تأملنا مبدأ علمية النقد كما لدى سانت بيف وبرونتير وجورج لوكاكش ولوسيان غولدمان وغيرهم من النقاد المحدثين، سنجد أن الجاحظ أول من أشار إلى أن النقد علم، حيث جعل مرد استشهاد الناقد من الذاكرة، وجعل النقد يرجع إلى ثقافة الناقد واتساع معارفه للتبع عملية القياس، وكان يستخلص علوم النبات والحيوان وغير ذلك من العلوم من الأعمال الإبداعية، كما أن الفلاسفة المسلمين جعلوه يُخضع ذلك للتجربة والبرهان المنطقي. فالجاحظ "استغل الشعر مصدراً لمعارفه العامة، إذ استمد منه تصوراً للخطابة وبعض معلوماته عن الحيوان، بل جاء بأشعار وشرحها، لأن شرحها يعينه على استخراج ما فيها من معرفة علمية، وهو إذا ما روى الشعر بمعزل عن الاستشهاد فإنما يرده للذاكرة كغيره من نقاد عصره.. ومرد هذا إلى طبيعته الذاتية وملكاته وسعة ثقافته".
وهو ما نجده أيضاً في نظرية "المكوك" لدى لويسيان غولدمان وغيره من الداعين إلى أنه لا بد للناقد أن يكون موسوعياً. وها هو الجاحظ قد وضع عناصر ثلاثة للاهتداء بها فى التحليل، وهي: "لا بد من اجتماع العناصر الثلاثة وهي: الغريزة، أو البلد، والعرق"، وهي نظرية الشمولية في نظرية الشمولية في البنيوية الديناميكية، فالجاحظ هنا سابق لـ"تايللور" في نظريته العودة إلى الجذور "الإثنية"، حيث علل العودة إلى الجذور "العرق"، بأنها أساس اكتساب الهوية عن طريق الاختلاف وإن لم يكن يراه اختلافاً حقيقياً بقدر ما اعتبره جذوراً تقود للحقيقة، فكانت الغريزة لديه عوناً على تدقيق نظريته.
هذا الاختلاف الذي ذكره الجاحظ، حيث يجعل الغريزة ترجع إلى العرق، وجعل شعر البدوي أقوى من شعر المولد -أي: الوافد عديم الأعراق المختلط النسب- وكأنه يشير إلى غير العرب الخُلّص، اختلاف محدد لا كما قال جاك دريدا: "اختلافات على الدوام وبدون حدود، فالاختلاف لدى الجاحظ هو من أجل القياس للوصول إلى تصنيف العمل الإبداعي وليس من باب العرقية والعنصرية على الإطلاق". فهو يرى أن الحدس العربي الخالص في البديهة اللغوية أقوى من حدس المولد، فالمفصل الحقيقي في هذه المسألة هو الحدس الفطري لدى العرب الخُلص فيقول: "إذا استرسل -أي المولد- انحلت قوته واضطرب كلامه".
فهو يفترض أن قوة الغريزة هي التي تتفاوت بين العرقين، وهي ذلك المبدأ الذي استند إليه تايلور ودوني كوش، والذي أحدث ثورة في التحليل الاجتماعي ومن ثم الأدب والفن. فالجاحظ يرى أن قوة الشعر لدى غير العربي قصيرة الرشا، ومن هنا يعرف الشاعر وعرقه من بين أبياته دون اللجوء إلى هويته، "فقوة الغريزة لدى البدوي أو العربي هي التي تتفاوت بين العرقين، وقوة الغريزة لدى البدوي أو العربي عامة تمده بمقدار قوتها وغزراتها، فأما غريزة المولد فإنها قصيرة الرشا تنفذ طاقتها بسرعة".
ثم إننا نجد أن الجاحظ قد أعطى للشكل جل اهتمامه، حيث أكد على مبدأ "حسن التصوير"، وهو ما تتسم به ثقافة الصورة في النقد المعاصر، وكأنه يخلط بين الشعر والرسم، كما أنه يفسح المجال إلى منهج "المينيمالية" في النقد الحديث "ما بعد الحداثة"، وهو ذلك الخلط بين المسرح والفن التشكيلي، فلو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه فى مجال اختلاط الشعر بالرسم.
وبهذا التحيز للشكل قلل الجاحظ من قيمة المحتوى، ويعلل ذلك الاهتمام بالشكل كما يقول الناقد إحسان عباس في قوله: "إنه يقرر أن الأفضلية للشكل لأن المعاني قدر مشترك بين الناس جميعاً".
وبهذا نجد أنه يرى أن المعرفة نسبية حسب نوع المتلقي وحسب ثقافته، فهي متغيرة، وهذا ما أكده كل من بوردو وأرابيل في استبيان، وهو علاقة الثقافة بالتلقي في معرض للفنون التشكيلية حيث أثبتا نسبية التلقي حسب الثقافة، هذه النسبية هي ما لم يحسب الخطاب النخبوي العربي حسابها مما نتج عنها ثقافة الاغتراب والتي تؤدي بدورها إلى ثقافة النزوح إما على مستوى الجسد أو على مستوى التلقي.
هذه النسبية هي ما نبت لها بعض النظريات لدى النقاد القدامى والنقاد المعاصرين، فـ"فيثاغورس" هو من أسس نسبية المعرفة، ومن قبله كان الفيلسوف اليوناني "امباقليدس"، وكذلك دريدا في النقد المعاصر عندما يرى أن النص ما هو إلا كلام مشاع بين الناس، واستند على ذلك في نظريته "موت المؤلف" بعدم تملك النص، بل إنه أصبح مشاعاً بين الناس، فلا توجد خصوصية أو تملك، فهو كلام والكلام مشاع وعلى المتلقي أن يتقبل الرسالة حسب مفهومه وحسب ثقافته.
وكما أن البنيويين التكوينيين في تحليلهم للنص يفضون غلالة النص بالرجوع إلى خارجه -كما في نظرية "المكوك" للناقد "لويسيان غولدمان"، ولتكن على سبيل المثال البنية اجتماعية أو تاريخية أو سياسية- وفي هذا المقام نجد أن الجاحظ قد جعل فض غلالة النص برده إلى المعرض الذي ورد فيه النص، فيقول: "من أجل أن نفك إغلاق هذا النص علينا أن نفهم في أي معرض ورد".
وهو ما أكده أيضاً الفلاسفة المسلمون في مبدأ "إزالة الغواش" للوصول إلى الجوهر، كما أن الجاحظ قد جعل المعرفة مكتسبة ولم تكن فطرية لديه، فقد أرجع مهارة الكاتب أو الشاعر إلى مكتسباته الثقافية، فحرض على قراءة المترجمات وهو في ذلك يرد على الشعوبيين. فالأنس لدى الجاحظ لم يكن بالاكتفاء الذاتي بالمعارف والعلوم بل دعا إلى الانفتاح على الآخر، لأنه يرى في ذلك مكاسب معرفية. إنها شهوة العلم والمعرفة والحرص الدائم على الأنس عن طريق التماس المعرفي.
"نجد فريقاً من نقاد عصره يرى أنها كتب عظيمة الفائدة لأنها تحوي الطب والفلك والحساب والهندسة والفلاحة وضروب الصناعات.. إلخ، فالمقارنة تدور بين كتب هذه العلوم وبين الشعر.. إن ربطه بأرسطاليس في المأساة التي تمنح القارئ اللذة ليس ما يعتنقه الجاحظ.. ولكنه يتصل بنظريته الكبرى في أنواع العلوم لا بكتاب الشعر". وهو هنا يفتح الطريق لـ"بيير" و"سانت بوف" في علمية النقد، فإذا كان أرسطو يرى أن المنفعة والوظيفة هي التطهير فإن نقاد القرن الثالث الهجري قد فرقوا بين ما هو محقق النفع وبين ما هو اصطلاحي المنفعة. ففي العلوم الحديثة ونظريات النانو وغيرها يتجه العالم إلى علم الطاقة والتي برع فيها الصينيون في فلسفة التأمل والزن وغير ذلك من الطاقات الروحانية، فالتلقي ما هو إلا سبيل التعلم عن طريق المتعة أولاً، هذه المتعة تنتج عن طريق التوتر الدائم أثناء التلقي، وهذا التوتر يعقبه لذة السرور أو الكدر واللذان فيهما يمثل السرور العام حتى وإن غلبت عاطفة الكدر، هذا الإحساس بالسرور هو نتاج تخلص الجسد من الطاقة الزائدة عن طريق التوتر وبالتالي المتعة.




http://www.alriyadh.com/1938290]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]