إذا كان مبدأ «لتعارفوا» أحد الأسس التي قام عليها التنوع العرقي والإثني البشري، فسوف نرى أن مقدرة المسجد على اختراق الأعراق والإثنيات حول العالم تشكل ظاهرة لافتة للنظر قلما تتكرر في أي مبنى آخر. المحاولات التي يقدمها «عالم من المساجد» تتمحور حول هذه الخاصية التي يتمتع بها المسجد دون سواه..
علق زميل على برنامج نقوم بإعداده وتقديمه في رمضان بعنوان "عالم من المساجد" بقوله: لماذا لا تتحدثون عن المساجد إلا في رمضان؟ وفي الحقيقة، إن البرنامج تقوم جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد بتقديمه عبر قناتها في "اليوتيوب" يومياً في شهر رمضان وللموسم الثاني على التوالي، والجائزة، بصفتها أكبر مؤسسة مهنية وفكرية تهتم بعمارة المساجد على مستوى العالم لا يتركز اهتمامها على شهر رمضان فقط، رغم أن "تعانق" العمارة والروحانية أكثر ما يظهر في هذا الشهر الكريم، بل يمتد هذا الاهتمام في نشاطها اليومي المهني والأكاديمي والفكري. قلت للزميل: إن الفرصة في شهر رمضان مواتية لإعادة شحن الذاكرة بالقيمة الثقافية الكبيرة التي عادة ما يظهرها المسجد خلال عبوره للثقافات وقدرته على الاندماج مع الثقافات المحلية وعكس تفاصيل هذه الثقافات من خلال عمارته المتنوعة. وفكرة "عالم من المساجد" ترتكز بالدرجة الأولى على تناول أمثلة من عمارة المساجد حول العالم نقدياً. قلت له: الهدف هو توضيح أن المسجد وعمارته إحدى رسائل العولمة المبكرة التي حملها الإسلام إلى كافة أنحاء العالم، ولكن من خلال مبدأ "لتعارفوا" في قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا " (الحجرات: 13).
ويبدو أن الفكرة التي يريد "عالم من المساجد" أن يؤكد عليها هي أن عمارة المسجد تتنوع وتتداخل مع الثقافات الإنسانية المختلفة لكنها تبقى محافظة على جوهرها الوظيفي، فالمسجد هو وسيلة للترابط كما أنه مكان للعبادة. المدهش حقاً هو عندما نحاول أن نسترجع التاريخ ونخوض في ذاكرة المسجد وكيف استطاع أن يجمع البشر عبر رقعة جغرافية واسعة جداً شملت العالم القديم تقريباً، وكيف أنه كان في كل مرة ينسجم مع ثقافات الشعوب، وكان قادراً على التعبير عن تفاصيلها. لقد مثل على الدوام رسالة "لتعارفوا" لأنه كان رسالة السلام والتآخي والمساواة. قلت للصديق عندما نتحدث عن المساجد في رمضان، ذلك لأننا نتذكر أن هذا المبنى الذي يحث على التعارف والترابط، هو في الوقت نفسه يدعو إلى التقشف والزهد والبساطة، وأن الخروج عن هذه الرسالة هو خروج صارخ على فلسفة المسجد في جوهرها.
من الجدير بالذكر أن عمارة المسجد المعاصرة التي يتناولها "عالم من المساجد" تثير ظاهرة تفكك وتشتت العمارة المسجدية، وتصف هذا التشتت بالأزمة التي يجب أن نتعامل معها برؤية مهنية عملية. ورغم أن الفكرة تركز على البحث عن اللغة المشتركة والظواهر التي يشترك فيها المساجد المعاصر معمارياً في الوقت الراهن حول العالم، إلا أن علامات التفكك وعدم التناغم تظهر جلية على هذه العمارة الأمر الذي يستدعي إعادة التفكير كلياً في المفاهيم التي يفترض أن نتفق حولها لتعريف "مسجد المستقبل". يبدو أن هذه النظرة الصارمة غير المتفائلة لم تعجب البعض، فقد ذكر لي أحدهم أن صفة "الأزمة" التي وصفت بها العمارة المسجدية هي مبالغة، فما زال المسجد محتفظاً برسالته الأساسية التي تدعو للتعارف وتجمع بين شعوب العالم وتساوي بين البشر. قلت له: اتفق معك لكن ما ينطبق على ثبات الوظيفة والرسالة للمسجد لا ينطبق على عمارته.
من المؤكد أن عمارة المسجد حول العالم قادرة على التعبير عن ثقافات الشعوب، ليس على المستوى التشكيلي والبصري، بل على مستوى أنماط الحياة كذلك من خلال تعدد وتنوع الوظائف التي صارت تُلحق بالمساجد، ويبدو أن فهم تاريخ الشعوب من وجهة النظر "المسجدية" أمر ممكن، فإذا كان مبدأ "لتعارفوا" أحد الأسس التي قام عليها التنوع العرقي والإثني البشري، فسوف نرى أن مقدرة المسجد على اختراق الأعراق والإثنيات حول العالم تشكل ظاهرة لافتة للنظر قلما تتكرر في أي مبنى آخر. المحاولات التي يقدمها "عالم من المساجد" تتمحور حول هذه الخاصية التي يتمتع بها المسجد دون سواه.
ومع ذلك كان من الواضح أن إيصال فكرة معقدة وعميقة متجذرة في جوهر المسجد وفلسفة دوره الإنساني والثقافي، ليست بالأمر اليسير، خصوصاً إذا ما كان التعبير هذه الفلسفة من خلال لغة معمارية نقدية تبدو جافة في نظر البعض. على أن محاولة ربط رسالة المسجد الإنسانية بالعمارة، حسب تصوري، مسألة مهمة بل وملحّة، فالعمارة تظل إحدى الأدوات الأساسية التي تستطيع حمل الرسائل الثقافية العميقة دون الحاجة إلى نطق أي كلمة.
http://www.alriyadh.com/1944892]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]