من أخطر أنواع التطفُّل على المسؤولية ما يقوم به المشاغبون على الأئمة والولاة من الخوارج والمحرضين ونحوهم، وقد ابتلوا بالانصراف عن العمل المثمر، ولم يستطيعوا الإقبال على شؤونهم..
قسمة الله الحظوظ بين عباده ملؤها العدل والحكمة، وكيف لا تكون كذلك وهي قسمة الخالق الحكيم، مَنْ قضاؤه عدلٌ في عباده، ومن مظاهر تلك القسمة التفاوت بين الناس في الصلاحية لتحمل الأعباء والتكاليف؛ ليكون منهم حامٍ ومحميٌّ وكافل ومكفول وراعٍ ورعيةٌ، وهذا التنوع من مستلزمات عمارة الأرض وانسياب الحياة فيها، ولكل أهل مستوى من مستويات البشر أعباء يمكنه حملها إن لم يمنعه صغرٌ أو هرمٌ أو مرضٌ، فإن هو قام بما ناسبه منها أفاد واستفاد، بل ربما أبدع حتى صار محل غبطة، وإن طمح نظره إلى ما لم يتهيأ له حمله، وقفز اهتمامه إلى ما لا يلائم قدراته، فلن يجني أكثر من هدر الوقت والجهد، فلا محموله الذي تعجّل حملَهُ بميسورٍ له، ولا ميسوره الذي ازدراه وانصرف عنه براكضٍ خلفه ليترجَّاه أن ينساق إليه مرة أخرى، فقد اجتمعت له خسارتان؛ وعليه فمن اللائق بالعاقل ألا يتعجل تحمل ما لا يطيق حمله، ولي مع ذلك وقفات:
الأولى: أن التوجيه النبوي واضحٌ في كون الدخول في شتى أنواع المسؤوليات مشروطاً بالتهيؤ لها بما يلائمها من عُدَّةٍ ماديةٍ وغيرها، وأكثر المسؤوليات شيوعاً النكاح وقد اعتبر فيه الشرع ذلك الشرط، فعن عَبْدِاللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» متفق عليه، وكذلك من لا طاقة له بمتطلبات المسؤولية على الناس نهاه الشرع عن تحمل المسؤولية سواء كانت ولاية عامة أم خاصة، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» أخرجه مسلم، قال بعض العلماء: "ووجهُ ضعف أبي ذر عن ذلك أنّ الغالب عليه كان الزهد واحتقار الدنيا وترك الاحتفال بها، ومَن كان هذا حاله لم يعتن بمصالح الدنيا ولا بأموالها اللذَين بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين ويتم أمره"، فأبو ذر - رضي الله عنه - لم ينقصه العلم والدين، لكن لما علم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم التهيؤ للولاية نهاه عنها.
الثانية: كَثُرت أنواع التطفُّل على المسؤولية في عصرنا بسبب سهولة الإدلاء بالكلمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد يذكر الإنسان أنه يشتكي من أعراض صحية، فتنهال عليه الوصفات الطبية من متطفلين ليست لهم بالطب علاقة البتة، أما المتطفلون على علوم الشرع بأصنافها فحدّث عنهم ولا حرج، فهو الذي يستمرئ المتطفلون التسور عليه، وقد وجدت في الساحة فئات من الجهلة امتهنت التحدث في الشرع بلا تأهل، فجرَّأت غيرهم على هذه الممارسة الخطيرة، وقد يستشير مستشير فتنهال عليه مشورات من أناس لا يفقهون شيئاً في المهمة التي يطلب فيها الشورى، وهذا مباين لما عهد عند العقلاء من التأني عند المشورة، بل ربما انتظر بعض أهل الأحلام والنهى ليسمع ما يقوله بقية المستشارين تصوُّناً من الزلل والخطأ، وقد قال بعض الحكماء: "إذا استشير نفرٌ أنت أحدهم فكن آخر من يُشير فإنه أسلم لك من الصّلف، وأبعد لك من الخطأ، وأمكن لك من الفكر وأقرب لك من الجزم"، ومن يتطفل على المشورة إما متهاون بالأمانة أو جاهل بأن المستشار مؤتمن.
الثالثة: من أخطر أنواع التطفُّل على المسؤولية ما يقوم به المشاغبون على الأئمة والولاة من الخوارج والمحرضين ونحوهم، وقد ابتلوا بالانصراف عن العمل المثمر، ولم يستطيعوا الإقبال على شؤونهم، بل نظروا إلى مسؤولية يقوم بها أهلها، فاجتهدوا في التشغيب عليهم في شأنها، وليست هناك حدود ولا ضوابط تحجز من ابتلي بهذه المصيبة عن السعي في فساده، فمنهم من شاغب على سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - لما ولي الكوفة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حتى قَالُوا: "إِنَّ سَعْدًا لَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ" ولا تخفى مكانة سعد في الإسلام وسابقته فيه، لكن أصاب المشاغبين عليه داءُ التطفل، ومنهم من قام على عثمان - رضي الله عنه - حتى قتلوه، وهو يومئذ خيرُ من على وجه البسيطة، ومنهم من نقم على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التحكيم وهو يومئذ خير أهل الأرض، واستمر حالهم هكذا وما زال المسلمون يُعانون من هذا التصرف الأهوج، تتغير الأسماء والشعارات وتتحزب الأحزاب لكن التطفُّل هو نفسه لا يمكن أن يَحْسُنَ وجهه البغيض أبداً لا سيما إذا أصيب بجدريِّ التشدد والتطرف.
http://www.alriyadh.com/1954101]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]