حين ينسى القائد المهمة الأساس التي من أجلها تم تعيينه أو انتخابه، ينصرف جهده إلى أمور ثانوية ومماحكات تأخذ الكثير من جهده ووقته، وتؤثر سلباً على إنجاز المهمة الرئيسة للمؤسسة أو الدولة، بعض القادة والمسؤولين يشتت جهده في خلافات شخصية لا تضيف شيئاً لإنجاح المهمة..
يحكى أن تاجراً كان لديه ابن يشكو من التعاسة، ولكي يعلمه معنى السعادة أرسله لأفضل حكيم في ذلك الزمان، وحين وصل قصر الحكيم وجده فخماً وعظيماً وكبيراً من الخارج، دخل القصر وسأل الحكيم: هل لك أن تخبرني بسرّ السعادة؟ فرد الحكيم: ليس لدي وقت الآن، لكن خذ جولة في جنبات القصر وعد لي بعد ساعتين. أعطاه ملعقة بها قليل من الزيت، وطلب منه أن يحرص على ما في الملعقة وألا يسقط منها نقطة زيت. طاف الشاب بكل نواحي القصر ثم رجع إلى الحكيم الذي سأله: هل شاهدت ما في القصر من تحف ثمينة، وحدائق غناء، ومكتبة عامرة بالكتب؟ فأجاب الشاب: لا. فسأله الحكيم: لماذا؟ فرد الشاب: كنت مركزاً على الملعقة وما بها من زيت، ولم ألتفت لكل ما حولي في القصر. فقال له الحكيم اترك ملعقة الزيت، وارجع وشاهد كل ما في القصر وعد إليّ. شاهد الشاب كل ما يحويه القصر من روائع، وجمال مبهر. فقال له الحكيم: انظر يا بني هذا هو سرّ السعادة، نحن نعيش وحولنا نعم كثيرة لا نراها وفرص واعدة لا نلتفت إليها. لأننا ركزنا على الصغائر فشغلتنا عن مهامنا الأساسية التي تجلب لنا النجاح والسعادة.
تذكرت هذه القصة الخيالية والمعبرة وأنا أتابع زيارة رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم إلى الشرق الأوسط. جاء إلى المنطقة وأمامه تحديات كثيرة، فالحرب في أوكرانيا على أشدها وأثرت كثيراً على إمدادات الطاقة وأمن أوروبا بشكل عام. وأمامه الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الذي مضى عليه خمس وسبعون سنة، وأثر سلباً على المنطقة بأكملها. وأمامه إيران وخطورة امتلاك سلاح نووي، وما تثيره من قلاقل في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن. وأمامه الصين وبروزها كقوة اقتصادية تضاهي أميركا، بل وستتجاوزها قريباً، لكن الرئيس بايدن تصرف كما تصرف ذلك الشاب حين كان ممسكاً بملعقة الزيت. انشغل بقضايا انتهت وتم الحكم فيها، وأخذت العدالة مجراها، تلك الملعقة التي أمسك بها الرئيس أججها الإعلام المسير من قوى ضغط، وكيانات لا تعمل لصالح أميركا، بل ترتبط بدول خارجها، ويسوؤها أن ترى علاقات مزدهرة بين المملكة وأميركا. وإلا أيهما أهم: تلك القضايا المصيرية المذكورة بعاليه أم هذه القضية التي أصبحت في حكم المنتهي وتجاوزها الزمن؟ لكن التفكير المحدود والإعلام المسير جعلا منها حاجزاً لم يستطع تجاوزه.
دروس كثيرة يمكن أن تستنتج من هذه القصة الخيالية:
أولاً، حين يتم التركيز على الفرص الواعدة والمهام الكبيرة وتناسي الخلافات تكون النتائج مبهرة، وهكذا كانت نتائج القمة التي عقدت في جدة مع الرئيس الأميركي وأدارها ولي العهد الأمير محمد بكل ثقة واقتدار، كان التحضير لها رائعاً، ودعوة زعماء مجلس التعاون والرئيس المصري وملك الأردن ورئيس وزراء العراق موفقة، فقد تمخضت القمة عن قرارات جماعية تصب في مصلحة المنطقة وشعوبها، وتم توقيع ثماني عشرة اتفاقية ومذكرة تفاهم، تم كل ذلك دون أن تتأثر علاقة المملكة بالدول الأخرى كروسيا والصين اللتين تربطهما بالمملكة علاقات قوية ومصالح مشتركة.
ثانياً، حين ينسى القائد المهمة الأساس التي من أجلها تم تعيينه أو انتخابه، ينصرف جهده إلى أمور ثانوية ومماحكات تأخذ الكثير من جهده ووقته، وتؤثر سلباً على إنجاز المهمة الرئيسة للمؤسسة أو الدولة. بعض القادة والمسؤولين يشتت جهده في خلافات شخصية لا تضيف شيئاً لإنجاح المهمة، بل تؤثر سلباً على العلاقات الشخصية والتي هي الأساس للتعاون والإنجاز. مثل هذا القائد يمسك بملعقة تنسيه المهام العظيمة المنوطة به.
ثالثاً، سمع الرئيس الأميركي من كل زعيم عربي حضر القمة ما تعنيه فلسطين لدى العرب، وضرورة إعطاء حل الخلاف الفلسطيني - الإسرائيلي أولوية قصوى، فالولايات المتحدة الأميركية هي الوحيدة القادرة على إجبار إسرائيل على حل الدولتين وإنهاء الصراع وإحلال السلام العادل.
رابعاً، الأخطاء لا تأتي من الأفراد أو الدول النامية فقط، لكنها تأتي أيضاً من الدول الكبيرة والمتقدمة، وكلما كانت الدولة أكبر، كانت الأخطاء أكبر وأخطر، والغريب أن الأخطاء تتكرر وإن كانت في أوقات متباعدة ومواقف مختلفة بين الدول، لكن النتائج تكون مكلفة للغاية، كما حصل لأميركا في كل من فيتنام وأفغانستان والعراق. وقد تفكك الاتحاد السوفييتي بسبب سوء إدارة الدولة في الداخل والخارج، واليوم تكرر دول أخرى السيناريو نفسه.
القيادة الواعدة لدى المملكة أنجحت القمة المنعقدة في جدة، وأعطت مثالاً يحتذى لما يجب أن تكون عليه القيادة من تجاوز الصغائر، والتركيز بدلاً من ذلك على المهام الأساسية والمصيرية.
http://www.alriyadh.com/1962856]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]