الناس الذين لا يرتهنون للظروف يختلفون عن الذين شغلتهم الظروف، ذلك أن لديهم صفات وخصائص مميزة لا علاقة لها بالعوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو الوراثية، فهم لا يتقيدون بأي أدوار أو التزامات أو مستويات حياتية، ولا يدخلون في أفكار ومشاعر غير مثمرة..
يطرح اليوم سؤال مركزي وهو:
ما علاقة الإنسان بالظروف؟
وقد لا نحتاج لتفكير طويل لنسأل هل الإنسان يؤثر في الظروف أم يتأثر بها؟
فعلاقة الإنسان بالظروف كان منشؤها نظريات علم الاجتماع والأفكار المستمدة من علم النفس الاجتماعي وهي تقوم على قراءة الواقع الاجتماعي قراءة عاطفية توصل إلى أن الإنسان وليد الظروف سواء كانت الظروف اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو نفسية وهو خطأ منهجي لا يستند إلى أساس موضوعي فالإنسان في الواقع هو الذي يصنع الظروف.
ولكن ما يحدث في المجتمعات بشكل عام هو أن التغير التكنولوجي وليس الظروف، يؤثر بشكل واضح في التغير الاجتماعي والثقافي، فعالم الاجتماع الأمريكي ويليام أوغبرن يرى أن التقدم السريع الذي حدث في مجالات الحياة المادية بفضل منجزات العلم الحديث والاكتشافات التقنية الحديثة لم يصاحبه تقدم في القيم والمبادئ والأخلاق والفضائل الإنسانية ولم يوضع ضمن نطاق فلسفي يربط ما بين التغير التكنولوجي والتغير الاجتماعي والثقافي، وقد تناول هذه الظاهرة الدكتور ورثورشتين مؤسس نظرية الربط ما بين التكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية.
إلا أن ما يعرف بالضغط الحسن لتعزيز نوعية الحياة والذي عادة يسلكه معظم العصاميين والذي يقوم على الإصرار وقوة الإرادة وملازمة الهدف يكسر هذه النظريات ومن بينها ما يعرف بالظروف، فإذا خضع أحد لما يعرف بالظروف فليس لأن هذا هو السائد وإنما السائد أن معظم الناس لا يرتهنون للظروف ولا يعبؤون بها، فالناس في الغالب نوعان:
نوع يعيش على هامش الحياة فارغاً من أي إنجاز أو بصمة، ولذلك قد لا يشعر بقيمة الحياة.
ونوع آخر يعيش وفق منظور الحياة ويدرك معنى وجوده وغايته، هذا يكون في العادة لديه القدرة على التركيز ووضوح الرؤية.
لا شك أن هنالك علاقة جدلية بين الإنسان والظروف، تعود إلى الاستغراق العاطفي في هذه الجدلية.
يقول جورج برناردشو: دائماً ما يلقي الناس باللوم على الظروف التي يعيشونها، إنني لا أؤمن بالظروف فالذين يحققون تقدمًا ونجاحات في حياتهم لا يعرفون الظروف.
فكل الأفكار الجديدة التي أحدثت نوعاً من التغيير الإيجابي في حياتنا، كان ينظر لها في وقت قريب بأنها أسوار يستحيل تخطيها، وأنها غير مهيأة بسبب الظروف فالذين يسعون إلى التغيير الحقيقي ليسوا نسخة من أحد لا يستكينون للظروف أو الوهن والضعف، يعكسون في وعي الناس نموذجاً للشخصية الملهمة القابلة للتمثل فمن مزاياهم أنهم لا يتظاهرون بشيء فهم يرون أن التظاهر الشكلاني تشويه لحقيقتهم وسلوكياتهم. ولا يتحدثون عن الناس بل يتحدثون معهم، ولا يشعرون أنهم بحاجة إلى أن ينسجم الناس مع تصوراتهم، ولا يرون أن العالم يجب أن يسير على نمط معين.
يعرفون كيف يوظفون طاقاتهم في المواقف والغايات الصحيحة ولا يتصرفون مطلقاً على أساس كونهم أسمى من غيرهم، ويتعاملون مع الآخرين بدرجة واحدة ولا يسعون لتبرير أفعالهم، يعيشون كل لحظة من لحظات حاضرهم متحررون من الجمود العاطفي، ويمكنك تمييزهم عن غيرهم بوقوفهم دائماً في الموقف الصحيح ولا يلزمون أحداً بفهمهم ولا يمنحون صفاتهم قيمة مضافة على الآخرين، فالتعريف الذي يمنحه السلوك أقوى وأكثر حكمة من أي تعريف شفهي.
فالناس الذين لا يرتهنون للظروف يختلفون عن الذين شغلتهم الظروف، ذلك أن لديهم صفات وخصائص مميزة لا علاقة لها بالعوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو الوراثية، فهم لا يتقيدون بأي أدوار أو التزامات أو مستويات حياتية، ولا يدخلون في أفكار ومشاعر غير مثمرة يقومون بأشيائهم بعفوية وببساطة وراحة بال، وكما يقول الدكتور واين دبليو - داير: إن أمطرت السماء فرحوا ويعتبرون المطر شيئًا جميلًا وإن اشتد الحر لا يحدث لديهم شعور بالاستياء وإن كانوا وسط زحام مروري أو حفل ما أو بمفردهم يتعاملون ببساطة مع الموقف الذي هم فيه، فلديهم القبول الواعي لكل شيء، والقدرة غير المألوفة على الابتهاج.
لا يضيعون أبداً لحظة واحدة من لحظات حاضرهم في التحدث عن الظروف، فالتحرر الكامل من الظروف هو إحدى ركائز الأفراد الأسوياء، فما عاشوه من الحياة لا حيلة لهم فيه، فلن يغير شيئاً الاعتراض على الماضي، فالتعلم من الماضي أسمى من الاعتراض عليه، وفي نفس الوقت لا يبددون لحظات حاضرهم بأشياء مستقبلية لا حيلة لهم فيها.
يعشون للحاضر ولا يرهبهم المجهول، فلحظات الحاضر هي كل ما لديهم، ولا يبددون فترات حاضرهم في حدث مستقبلي، فاللحظات التي بين الأحداث لحظات يمكن أن تعاش مثلها مثل تلك اللحظات التي تقع فيها الأحداث.
http://www.alriyadh.com/1962974]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]