صديقي المهندس (ص) يعمل مديراً في منصب كبير بإحدى المنظمات المرموقة، تواصلت معه شركة متخصصة في استقطاب القياديين التنفيذيين، وقام بعدد من المقابلات في جهة جديدة قدمت له عرضاً وظيفياً قوياً بمزايا مادية مغرية جداً مقارنة بوضعه الحالي. المشكلة الوحيدة هي سمعة هذا المكان الجديد من حيث الانشغال الشديد والعمل ليلاً نهاراً دون انقطاع، وحيث لا معنى لمصطلح إجازة، ورغم ذلك كله كان المهندس (ص) يفكر جدياً بخوض التجربة وتقديم استقالته لمكان عمله، وفي صباح ذلك اليوم وكعادته في الذهاب إلى المتجر الكبير في الحي الذي يسكن فيه، صادف أن مر بجانب ركن المأكولات البحرية حيث لمح القواقع التي يعشقها إلى حد الجنون، حزم صاحبنا أمره واشترى القواقع واتصل بمديره ليطلب إجازة من العمل في ذلك اليوم، واتجه إلى بيته ليبدأ في طبخ أكلته المفضلة (باستا القواقع)، وبعد أن قضى المهندس (ص) على الطبق الشهي، فكر بهدوء وقرر أن يعتذر عن قبول العرض الوظيفي الجديد، سألته: "لماذا فعلت ذلك؟"، فأجابني والابتسامة تعلو محياه: "إنه طبق القواقع يا صديقي! هذا الطبق اختصر كل الإجابات عندي، فهو يمثل لي الرغبة في الاستمتاع بالحياة. يمكنني أن أحصد الراتب العالي واللقب الفخم ولكن سأكون محروماً من هذه اللحظات السعيدة والممتعة في حياتي.. ألا ترى ذلك سبباً منطقياً وكافياً؟".
هذه القصة ذكرتني بموقف حصل لي مؤخراً مع حلاق اسمه مصطفى، كان يتحدث مع أحد زبائنه الذي راح يشتكي له من كثرة التجاعيد التي راحت تغزو وجهه وتغتال ملامح الشباب لديه، فما كان من الحلاق مصطفى إلا أن رد عليه بكل عفوية: "أكبر سبب للتجاعيد هي الهموم والتفكير الزائد! إن لدي اثنين من الأخوال بينهما عشر سنوات في العمر، إلا أنك إذا رأيتهما حسبت أصغرهما سناً أكبر من الآخر بعشر سنوات بسبب قلقه الدائم وتفكيره الكثير والمبالغ فيه. بينما الآخر يعيش بسلام ورضا ويأخذ الأمور بكل بساطة".
وبعيداً عن تجاعيد الوجه والقواقع اللذيذة، فلا شك أن الكل يسعى للنجاح المهني وتحقيق الإنجازات في العمل وتأمين مستقبله ومستقبل أسرته، ولكن من المهم في الوقت نفسه أن لا ينسى الإنسان نفسه ويهمل صحته ويدمر حياته الأسرية سعياً وراء الكسب المادي والنجاح الوظيفي. فمهما طال الزمن، مصير الإنسان إذا كتب الله له العمر أن يتقاعد ولن يبقى معه المكتب والأشغال، بل ستظل معه حالته الصحية وأسرته وما بنى من علاقات إنسانية حقيقية وذكرى طيبة بعيداً عن المناصب والكراسي.
وباختصار، من الطبيعي أن تحرص كمدير على تسجيل النتائج العالية وتحقيق المستهدفات والمؤشرات المطلوبة منك، وقد يكون معتاداً أن يمارس المدير الضغوط على فريق لأجل ذلك، ولكن القيادي الناجح يعرف كيف يدير فريقه ويستثمر الأوقات والموارد بطريقة تجعل الفريق يحقق أعظم النجاحات والإنجازات المهنية في ظل توازن مع الحياة الأسرية والخاصة. ولا شك أنه ستكون هنالك أوقات طارئة تتطلب العمل في الإجازات وأوقات متأخرة، ولكن المهم هو بذل القائد ما يمكن من جهد لبناء ثقافة التوازن والحرص على دعم الموظفين للنجاح في الوظيفة وفي الحياة...
وأختم بكلمات الحلاق مصطفى: "هموم العمل لها وقتها في مكان العمل، إذا أردت أن تعيش بسعادة وصحة وراحة بال، فلا تحمل هموم العمل معك إلى منزلك!".
http://www.alriyadh.com/1968455]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]