إن توسع الدوران في أفلاك الحريات وإصدار الرؤى -الذي هو حديث العهد في عالمنا- بات فيه الرأي عديم التقيد بمفهوم الحرية المسؤولة، التي هي الضابط الأساسي لمفهوم الحرية ذاتها. فالحرية اتخاذ الفعل أو القول الموزون الخالية من التعدي على كرامة أي إنسان آخر أو على الوطن نفسه..
نحار ونُفكَّر، ونقبل وندبر، كي نقرر مَن مِنا على حق ومَن على باطل، في ضوء ما يحدث من قضايا مهمة في وطننا العربي بأكمله، والذي يموج كموج البحر الهادر في يومنا هذا؟ فنرى جل هذا الوطن العربي يموج بآراء فردانية متعنتة، واضطرابات وهدير منقطع النظير وخاصة عبر ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبح فيها كل واحد منا مذيعا له قناته الخاصة، ثم يُطلق علية لقب إعلامي بشكل هزلي ومضحك! ذلك لأننا نعلم أنه لا يسمى الكاتب أو المذيع إعلامياً، إلا بعد مروره بتخطي واجتياز عقبات وحوكَمة وتعب مضنٍ من سنوات العمر حتى يصل إلى هذا اللقب.
قد يقول قائل إنها حرية رأي، لكنها في حقيقة الأمر حمى اختيار لدى هؤلاء متقلبي الرأي والكلمة، فيما يُقَدم وفيما يُقَال وما نستمع إليه، وقد يحسبها البعض حسنة، لكننا لو فكَّرنا مليا في الظرف العربي الراهن، لوجدنا أنفسنا نقول إن لكل مقام مقال كما في المثل الشعبي السائد، فالكل محمل بآراء وأفكار وصداع رأس، دونما يفكر أحدنا أن الوقت والزمن والحالة الوطنية العربية لا تحمل هذه الحمى المقيتة، ولم نتفقه فيما يسمى بـ فكر الأولويات، وكأننا نحيا في يوتيبيا أو قل المدينة الفاضلة التي يجب أن نضع لها اللمسات الأخيرة!
الوطن -بأكمله من شرقه لغربه- يا سادة يضطرم بنار ما يمكن أن نسميه مبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان" في أفق ضيق وصدر لا يتسع للتفكير في شأن ما يجري في العالم بأسره من أحداث ومن أزمات اقتصادية ومن حروب قد نكون نحن المعنيين بها وكأنه تطبيق لنظرية المليار الذهبي التي تدعو لفناء ثلثي قاطني الكرة الأرضية.
لماذا تضيق الرؤية حتى تصل إلى ما تحت أقدامنا، دون التمعن بأفق باسق مطَّلع ومحلل ومفسر وقارئ لما يجري علمياً، لكي نأخذ القرار في نهاية المطاف؛ فاتخاذ القرار بإدراك قبل نطق أي كلمة على الفضاء الإلكتروني وقنواته أمر يتوجب اتخاذه، فالدائرة ضيقة والكلمة مهمة ونطقها أهم من أصحابها الذين يصدرون المشهد، وقد لا يعلمون أنهم النواة لإكترونات الذرة التي هم مصدرها، فقد تصيبهم هم دون غيرهم جراء، حمى اختيار قرار في منطوقه أو فعله يحسبونه إيجابيا!
يقول الكاتب الأميركي (ألفين توفلر) عن حمى الاختيار هذه في كتابه الشهير "صدمة المستقبل" أنها عملية إدراكية يعاني فيها الأفراد من صعوبة تكوين رأي أو تحديد قرار عندما يكون أمامهم أكثر من اختيار مناسب، تتحول وفرة الاختيارات التي يُفترض به أنه يكون إيجابيا، إلى نقمة تجعل المرء مرتبكاً وعاجزا عن اتخاذ قرار من أي نوع.
أن ما نجده الآن من هذيانات تصدع الرؤوس ومن دون تمريرها على عمليات إدراكية تجعل الفرد يحتار فيما يقول أو ما يفعل دون النظر في المثل القائل "إن لكل مقام مقال"!
لماذا نحن -دون غيرنا- من يضرم نار التذمر والاحتجاجات والهذيانات والتي أدت إلى هذه الاضطرابات في جل الوطن العربي، فهذه ليبيا، وتلك اليمن، وهناك العراق -الذي قد بات يستقر- ثم سورية، فلبنان وغيرها؛ بينما في الوقت نفسه لا نجد هذا الفعل أو ذاك من تظاهرات وهدير التذمرات والشتائم وتخطي الحدود الحمراء في دول الغرب؛ حيثما نرى أن جميع أرجاء أوروبا وأميركا وروسيا -أي نصف الكرة الأرضية الغربي- يمر بظروف أصعب وأمرّ، من حروب وأزمات اقتصادية وجفاف أنهار وأوبئة وحرائق غابات ومدن، دونما احتجاجات وتظاهرات وهذيانات "نتيَّة" وعواصف رعدية من تظاهرات الميادين وسط طلقات الرصاص؛ ولكن هناك انضباط ووعي قومي ووطني، ذلك لأنهم يمررون خطابهم وأفعالهم على تلك العمليات الإدراكية قبل اتخاذ أي قرار على مستوى الكلمة من أين تنطلق وأي هدف تصيب بالنسبة لأوطانهم وشدة إنتمائهم!
إن توسع الدوران في أفلاك الحريات وإصدار الرؤى -الذي هو حديث العهد في عالمنا- بات فيه الرأي عديم التقيد بمفهوم الحرية المسؤولة، التي هي الضابط الأساسي لمفهوم الحرية ذاتها. فالحرية اتخاذ الفعل أو القول الموزون الخالية من التعدي على كرامة أي إنسان آخر أو على الوطن نفسه. يقال إن واحدا مد ذراعيه فجاءت يده في أنف الآخر، فلما احتج.. قال: أنا حر، رد عليه: حرية يدك تنتهي حيث تبدأ حرية أنفي!
إن كل ما تموج به الفضاءات الإلكترونية من سخف وآراء شخصية، لهي حرية غير مسؤولة، وتعدٍ على حريات الآخرين ذوقيا وفعليا ووطنيا أيضا، تؤدي حتما إلى عدم استقرار الأوطان أيضاً، لأنها في نهاية المطاف تمر من دون وعي أو إدراك!
إن أوطاننا الآن تحتاج إلى إلينا جميعا جماعات غير فرادى تكاتف ورسوخ وامتلاء بأن أوطاننا أهم منا نحن، وأن ما تمر به أوطاننا ما هو إلا انعكاس أو قل تماس مع ما يحدث في العالم من أزمات ذكرناها سلفاً فنحن لا نحيا في أفق منعزل عن المد والجزر العالمي. وفي النهاية نؤكد على أن لكل مقام مقال في هذا المنعطف التاريخي المهم كعلامة فارقة في محاولة لرسم خارطة عالم جديد نحن جزء منه.




http://www.alriyadh.com/1969673]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]