التاريخ العربي والتجربة الإسلامية في غناها وتنوعها واتساعها قادرة أن توجد تربة خصبة لتأصيل واستنبات الكثير من قيم ومفاهيم الحداثة حتى تصبح هذه الأخيرة حاملة لمعنى إيجابي لا يجعلها فقط رديفة للغرب ومرتبطة بزمن معين..
في محاضرة ألقاها الدكتور محمد أركون في ندوة قرطاج في تونس حول التسامح يعرض فيها مسألة التسامح واللاتسامح في التراث العربي والإسلامي مؤكداً على أن التسامح كممارسة فعلية كان غائباً في المجتمعات العربية الإسلامية، وهذا الغياب عنده ليس خاصاً بالفكر الإسلامي وحده، معتبراً أن التسامح في صورته الحديثة يخضع لمرجعية أوروبية مُطلقاً عليه التسامح الإيجابي الحديث وأن ما لدى المجتمعات العربية لا يعتبر تسامحاً وإنما حلم يقوم على الشفقة التي عادة ما يكنها القوي للضعيف والمنتصر للمنهزم وهذا المصطلح يختلف جذرياً عن المعنى الإيجابي والحديث للتسامح كقيمة من قيم الحداثة.
وواضح من هذه المعاني والأبعاد كما يؤكد المفكر إبراهيم أعراب أنها تؤسس لتصور جديد للتسامح بربطه بحقوق الإنسان مما جعل مفهوم التسامح يتجاوز النطاق الديني والفردي ليصبح حقاً ينبغي الدفاع عنه وحمايته قانونياً ككل حقوق الإنسان الأخرى.
كما أنها تربط ما بين التسامح وثقافة السلام على أساس أن هذا الأخير لن يترسخ كثقافة إلا بوجود الأول وكما قال المدير العام لليونسكو فدريكو مايور التسامح شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب وهو لازم لكل ثقافة للسلام.
لكن إذا كان التفكير الراهن في التسامح ينحو هذا المنحنى فهذا لا يعني بالضرورة أن التسامح كان دائماً بهذا المعنى.
إذ عرف في مساره كفكرة وكتقليد تحولات انتقلت به من معنى إلى آخر بدءًا من ولادته في موطنه الأصلي في أوروبا إلى أن أصبح ما هو عليه الآن.
فهو ظاهرة تاريخية بشرية مما يجعل مساءلته عن أصوله وشروط ميلاده جزءًا من التفكير النقدي وذلك قبل التساؤل عن مكانته ومدى حضوره في الثقافات الأخرى غير تلك التي عرفت ولادته.
فقد سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20 ديسمبر 1993 أن قررت إعلان سنة 1995 سنة عالمية من أجل التسامح وعهدت لمنظمة اليونيسكو بإعداد وثيقة إعلان مبادئ حول التسامح مع إقامة لقاءات ومؤتمرات حول التسامح.
كما تقرر انطلاق حملة استكشاف حول أشكال اللاتسامح الجديدة في العصر الحديث بهدف تعزيز التفكير الأخلاقي للتسامح.
يتأسس الخطاب الأممي حول التسامح على مبادئ حقوق الإنسان العالمية حيث ورد في البند الأول من وثيقة إعلان المبادئ حول التسامح
)DECLARATION DE PRINCIPES: SUR LATOLERANCE)
الصادرة عن اليونيسكو في 16 نوفمبر 1995)- بصدد معنى التسامح بكونه:
أولاً: الاحترام والقبول بتنوع واختلاف الثقافات وهو ليس مجرد واجب أخلاقي ولكنه أيضاً ضرورة سياسية وقانونية وهو فضيلة تجعل السلام ممكناً عالمياً وتساعد بالتالي على استتباب ثقافة السلام.
وثانياً: اعتبار التسامح ليس تنازلاً أو مجاملة للآخر بل هو قبل كل شيء موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر ولذا فإن التسامح ينبغي أن يطبق من طرف الأفراد كما من طرف الجماعات والدول.
وثالثاً: فإن التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية الثقافية.
ورابعاً: فإن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية الاختيار والقبول بأن يتمتع الآخر بنفس الحق كما يعني أيضاً أن لا أحد يعمل على فرض آرائه على الآخر.
وإن كانت كلمة التسامح كلمة مولدة لا نجدها في قواميس اللغة العربية الكلاسيكية. فالجذر اللغوي للفظة التسامح المستحدثة لا يحيل على المعاني الحديثة للتسامح ما دامت تعني الكرم والسخاء والجود وقاصرة عن استيعابها لأنها تلغي مبدأ المساواة الذي يعتبر شرطاً في الدلالة الحديثة للتسامح.
ويؤكد المفكر أعراب بأن التسامح وجد أرضيته وجذوره في الفكر الليبرالي ومفاهيمه الإنسانية وإذا ما تتبعنا مسار فكرة التسامح وتحول معانيها ضمن مرجعيتها الأوروبية نصل إلى أن الفكرة كانت وليدة حاجات نابعة من المجتمعات الأوروبية وثقافتها وكانت بالتالي فكرة ضمن منظومة فكرية متكاملة لها أسسها المعرفية والفلسفية.
وقد ولد التسامح في القرن 16م إبان الحروب والصراعات الدينية التي عرفتها أوروبا ما بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهى الكاثوليك بالتسامح مع البروتستانت وبشكل متبادل ثم أصبح التسامح يمارس اتجاه كل المعتقدات والديانات.
وفي القرن 19 انتشر ليشمل مجال الفكر وحرية التعبير ولم يكن ليحدث هذا التحول والانتقال إلا بعد حروب وصراعات دينية طويلة عاشتها دول أوروبا في ألمانيا وهولندا وانجلترا وإسبانيا وفرنسا.
وهذا يعني أن التسامح كفكرة ولدت كرد فعل على التعصب والصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي أنهكت أوروبا ولم يكن من حل أمام مفكريها وفلاسفتها ومصلحيها الدينيين إلا البحث عن حل لهذه المعضلة الدينية بالدعوة إلى التسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف وإباحة حرية الاعتقاد الديني وبهذا يكون التسامح في هذا السياق التاريخي يحمل نزعة حركة الإصلاح الديني الأوروبي.
لقد حدث انشقاق داخل الدين الواحد ثم حدث تجاوزه بالاعتراف بالحق في الاختلاف في الاعتقاد ثم في حرية التفكير بوجه عام.
وقد ظهرت في تلك الفترة عدة مؤلفات حول التسامح خاصة ما كتبه فولتير الذي يعتبره الكثيرون فيلسوف التسامح لأنه ارتفع بالتسامح واقترب به من المعنى المعاصر إذ جعله هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة ولحقوق الإنسان بقوله كلنا ضعفاء وميالون للخطأ لذا دعونا نتسامح مع بعضنا البعض بشكل متبادل وذلك هو المبدأ الأول لحقوق الإنسان.
فالفكر الفلسفي للقرنين 18 و19 أسس التسامح على مرجعية إنسانية .
ويورد كتاب الإسلام السياسي والحداثة في أحد فصولة رؤية المفكر الدكتور محمد عابد الجابري حول ضرورة تأصيل مفهوم التسامح في الحضارة العربية والتراث الإسلامي والبحث له عن مرجعية إسلامية يستند عليها.
تقوم على ضرورة فهم الآخر وإعطائه الأسبقية والتماس الحجج له بقدر ما نلتمسها لأنفسنا وتوفير الحق له وإعطاء الأسبقية للآخر هو جوهر التسامح وهكذا ينتهي الجابري إلى إعادة بناء مفهوم التسامح بالصورة التي تجعله يعبر داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي أعطي له داخل الفكر الأوروبي.
وهذا ما يؤكد على ضرورة التفكير في التسامح ومدى حضوره أو غيابه في الثقافة العربية الإسلامية انطلاقاً من المجتمع وحاجاته وتجاربه وتطلعاته وعدم الاقتصار على التحليل اللغوي أو البحث في القواميس عن وجود هذه الكلمة التي تقود إلى المفهوم حتى وإن كنا نسلم بأن اللغة تعكس ثقافة المجتمع وتؤثر في بناء فكره ومفاهيمه ومقولاته في كل حقبة من حقبه التاريخية لأن وقائع التاريخ العربي والتجربة الإسلامية في غناها وتنوعها واتساعها قادرة أن توجد تربة خصبة لتأصيل واستنبات الكثير من قيم ومفاهيم الحداثة حتى تصبح هذه الأخيرة حاملة لمعنى إيجابي لا يجعلها فقط رديفة للغرب ومرتبطة بزمن معين.




http://www.alriyadh.com/1972139]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]