على غرار ما يطرحه دارسو اللسانيات الحديثة اليوم من مؤلفات تتحدث عن (عنف اللغة) في عموم الخطابات، فإننا قد نتحدث هنا عن (عنف الأدب)، وما يضاده من (لُطف الأدب)، فأما (العنف) فهو أن يتوجه الأدب إلى المناطق الخطرة، كاستثارة العواطف المذمومة، أو تحقيق الغايات غير النبيلة، أيا كانت مشاربها وتنوعاتها، وحينئذ يخرج الأدب عن مساره الجميل الذي عُهد عنه، واعتيد عليه، في السمو بالنفس الإنسانية إلى حيث المعالي، والبعد عن المستقبح، والمستكره، والمستهجن، والمذموم.
إن الأدب الذي هو في الحقيقة تعبيرٌ فني عن الإنسان، والمجتمع، والكون، والحياة، قد يكون سلاحاً ذا حدين، فقد يستخدمه صاحبه في تلّمس المقاصد الفاضلة التي ترتقي بالإنسان، وتصعد به إلى حيث الجمال والجلال، وقد يوظفه مُنشؤه توظيفاً سيئاً، يسيء إلى الإنسان، والمجتمع، والحياة، فيكون الأدب حينئذ معول هدم وتخريب، وأداة شر وأذى، وإن كنتُ أرى أن الأدب لا يليق به إلا الجمال، والسمو، والبعد عن التطرف والغلو.
ومنذ العصور القديمة ظل الأدب يسير وفق خطين متضادين: خطٍّ ملتزم ينشد الخير، ويتطلع إلى خدمة الناس ونفعهم، وتلبية رغباتهم، وملامسة مشاعرهم، ومعالجة أخطائهم، وتقويمها وتهذيبها إلى ما يفيد ويجدي، وهذا الهدف يتفق مع معاني الأدب اللغوية في بدايات تطورها الدلالي؛ حيث تعني كلمة (أدب) قديماً الدعوة إلى الطعام، ثم أخذت تدل على التهذيب، والتقويم، والتعليم، بل إنها اقتربت مما تنحو إليه الآداب الرفيعة، والأخلاق الطيبة، وما يتخلل ذلك من الحث على المعروف، وبذل الندى، وكف الأذى، والدعوة إلى المحبة، والمودة، والتقدير، والشعور بالإمتاع، والإقناع، والإصلاح بين الناس، والتخفيف من مصابهم، ومشاركة أفراحهم، والارتفاع بمستوى ذائقتهم، والاهتمام بعواطفهم من خلال الشعر والنثر، ومن يقرأ في أكثر كتب الأدب يجد أنها لا تبتعد عن تهذيب الأخلاق، وتطهيرها من كل ما يشين.
غير أن هنالك خطّاً آخرَ ينبئ عن وجه قاتم وغير لائق بالأدب، وهو وجه الشر، والدعوة إلى العنف، والتحريض عليه، والانجرار وراء رذائل الأخلاق، والنزول بالنفس الإنسانية إلى السفاسف، والنقائص، وهذا الخط، أو الوجه غير مرّحب به، وغير منجذَب إليه، منذ أن عرف الإنسان الأدب، فجمهوره قليل، وهو لا يلبث أن يعود وبالاً على أربابه، وقد لا يستمر، ولا ينتشر؛ لأن النفس البشرية مجبولة على حب الخير، والطباع الكريمة، وكره الشر، والخصال اللئيمة، ولهذا لم يذع للأدب المحرّض على الشر صيتٌ، ولم يُكتب له قبول، أو بقاء، بل مجّه الناس، ومجّته القرائح، وصدّت عنه الفِطَر السوية، والنفوس السليمة، ومن ينظر في أدب العنف شعراً ونثراً منذ القديم، لن يجني من ورائه سوى النماذج المحدودة، وغير الجيدة، وهي نماذج تأباها الشيم، والقيم، وترفضها الأديان، والأعراف، والعادات، والتقاليد.
ولو تأملنا في أغراض الأدب العربي بشكل عام، سواء في الشعر وموضوعاته، أو في النثر وأنواعه، لألفيناها لا تخرج عن هذين الخطين، لكن الخط المتوهج، والوجه المسفر، والميدان الأرحب والأجود هو ذاك الذي ينثر الإبداع ورداً يفوح بالخير، وعطراً يتضوّع بالجمال، فيجعل الأدب أكثر إشراقاً وإيراقاً، وإمتاعاً، وإقناعاً، وتلكم غاية الأدب الأسمى، ومقاصده الأسنى، فليس الأدب إلا حيث تسمو النفس، ويرهف الحس، وتتهذب الأخلاق، وهكذا حال الأدب في كل الحضارات.
http://www.alriyadh.com/1976070]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]