إنّ الأزمنة تتغير، وأفعال الناس تتطور بتطور ما أبدعه العقل البشري، فالتجديد هنا لا يعني تشريع أحكامٍ ليس لها أصل في عمومات التنزيل الحكيم والسنة النبوية، إنما التجديد هنا هو الاتكاء على النصوص الشرعية وعمومات الأدلة..
غالبًا ما يجد كل ذي إبداع طريقه إلى الجماهير، ليرى ثمرة إبداعه ومجهوده مرسومةً على سلوكيات المجتمع، وهو المردود الذي يحفز على العطاء إذا ما ابتغي بالعمل الإبداعي "ملامسة الناس" وتغيير سلوكيات المجتمع للتفاعل مع الحدث.
وهكذا يبني المبدعون قراراتهم في استمرار العطاء أو الانقطاع والتحول للبحث عن طريق أخرى إلى الجماهيرية والشهرة، ولكن هذا لا يتأتى لمن كان يبتغي بإبداعاته "الله والدار الآخرة" فإبداعاته وأفكاره ستكون ولا شك في أمور دينه، من فقه وطرح ووعظ وغير ذلك، وهذا لا يستلزم منه ولا يشترط له "الشهرة" وطلب التجمهر، فالمراد أولاً وآخرًا هو "وجه الله" وإذا ما مررنا بتراجم كثير من الأئمة والمجددين وجدنا سيرهم مليئة بالإشكاليات مع مجتمعاتهم، وذلك لأن المجتمعات قد رسخ في أذهانها بالتوارث أن "أمور الدين" لا تتجدد مهما تطلبت الحاجة للتجديد! وهو لعمر الله انطباع تشكل بغير قصد ينافي الواقع الفقهي الذي عاشه رسول الله صلى الله عليـه وآله وسلم، في الفترتين المكية والمدنية، حيث تدرجت وتطورت الأحكام الفقهية والتشريعات الإسلامية وفقًا لسيرها المرحلي، وقد لفت النبي صلوات الله وسلامه عليه أنظار أمته إلى هذا "التطور" الضروري بقوله: "إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها".
وقد تفنن العلماء في تفسير هذا التجديد، ومن لطافة الدلالة فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلـم استعمل لفظ "التجديد" للإشارة إلى بقاء حكم الأصل وعدم اندراسه، وإنما يجدد بحسب حاجة الزمن والناس ليتوافق الحكم نفسه مع حاجاتهم وضرورياتهم المعيشية دون الخروج عن مساره الأصل، ولو كان المراد بالتجديد هو إعادة "توارث الفقهيات والمذهبيات" لكان قال "من يحيي لها دينها" وهو اللفظ الذي اختص به أهل الفقه والعلم "في إحياء السنن" التي يميتها الناس، فالعلماء والمبدعون في الفقهيات الإسلامية، لا يخرجون عن هذين الوصفين، محيي لما أماته الناس من الدين، ومجدد لما صلح في زمن سالف ليوافق زمنه وناسه، وهذا شيء لا ينكره عاقل فضلاً عن عالم، فإن الأزمنة تتغير، وأفعال الناس تتطور بتطور ما أبدعه العقل البشري، فالتجديد هنا لا يعني تشريع أحكامٍ ليس لها أصل في عمومات التنزيل الحكيم والسنة النبوية، إنما التجديد هنا هو الاتكاء على النصوص الشرعية وعمومات الأدلة، دون النظر إلى مخالفة مذهب أو مذاهب أو فقهيات عصر من العصور، فإن التجديد بالضرورة سيكون مصادمًا لكثير من الآراء والمذاهب المتوارثة، كمصادمة "الزمن" الحديث "للزمن" ذاك الذي احتاج لتلك المذاهب والفقهيات.
ليس الشأن هو في وجود المبدع المجدد، فهم كثر، ولذلك يرى بعض العلماء أن لفظة "مَن يجدد" في الحديث لا تدل على أنه شخص واحد رأس كل مئة سنة، بل قد يكونون أفرادا كثر بحسب تنوع الشعوب الإسلامية وتعددها، فقد تجد مثلا من يجدد في بلاد المغرب، مخالفًا بفقهياته لمن كان مجددا في مكان آخر، وذلك لحاجة المكان المرتبط بسلوكيات المجتمع نفسه، وإذا نظرنا لذلك لرأيناه فعلاً قد حدث مبكرًا في بداية تشكل الفقه الإسلامي، فقد تنوعت فقهيات بلاد المسلمين واختلفت وفقًا لاختلاف مجدديها وأئمتها، فبين حنبلي وشافعي وحنفي ومالكي وظاهري.. إلخ، وكل ذلك لا يعني تشريعًا جديداً، بل هو التجديد الذي تطلبته الأزمنة تلك، بما لا يعني قطع الانتساب بما أصله الأولون.
فأعيد القول: ليس الشأن في وجود المجدد، إنما الشأن هو في الاعتناء والقيام بأولئك المجددين، ليكون التجديد مقبولاً شرعيا وفقهيًا، وإلا فسيكونون مثل كثير ممن سبقهم، فإن ابن تيمية - رحمه الله - وهو من يتكئ أهل العلم في الحاضر على فقهه واختياراته، مات وتجديده في كتبه غير مقبول عند منتسبي المذاهب، وكثير من الأئمة لم يُعرفوا إلا بعد موتهم بسنين أو بقرون.. هذا، والله من وراء القصد.




http://www.alriyadh.com/1976184]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]